
وضع الإسلام سلسلة من التعاليم الصحّية للأبدان من شأنها أن تصون الأبدان من الأمراض، وتقيها من العلل والأسقام لو روعيت حقّ الرعاية وطبقت حقّ التطبيق وقد جاءت طائفة من هذه التعاليم في القرآن الكريم، وتكفّلت السنّة المطهّرة ببيان البقيّة، وها نحن نذكر باختصار ما ذكره القرآن الكريم.
لقد حرم القرآن أموراً ونهى عن أمور وكره أشياء وأباح أخرى، وما حرّم ولا نهى، وما كره أو أباح إلاّ لحكمة ظاهرة وأثر سيّء أو حسن على سلامة البدن وصحّته، فحرّم أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير بقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ( البقرة : 173).
وإنّما حرّم «الميتة» من الحيوان (وهي التي تفارقها الحياة من دون ذبح) لأنّ الموت إن كان عن مرض، أضرّ بالإنسان حتّى إذا عقّم لحمها من الجراثيم فهي تسبّب المغص في المعدة، وتسبب النزلات المعويّة، وعشرات المضاعفات الأخرى.
وحرّم «الدم» لأنّه أفضل مرتع للجراثيم والميكروبات المسبّبة للأمراض الخطيرة. وحرّم «لحم الخنزير» لما يحدثه من أمراض خطيرة لما يحمله من دودة خاصّة تنتقل بالأكل إلى بدن الإنسان وتحدث لديه أمراضاً كثيرة قد تؤدّي إلى الموت.
وحرّم ـ أيضاً ـ ما يشبه الميتة كالمنخنقة، والموقوذة، والمترديّة، والنطيحة فقال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} ( المائدة : 3). لأنّ الاختناق يجعل لحم الحيوان المخنوق أسرع إلى التعفّن والفساد.
ومثل المنخنقة، الموقوذة، وهي التي تضرب حتّى تشرف على الموت فتترك حتّى تموت، والمتردّية وهي التي سقطت من مكان مرتفع فماتت من أثر صدمة الوقوع، والنطيحة وهي التي ماتت من أثر عراكها مع مثيلاتها من الحيوانات. وبالجملة فهذه الحالات تجعل بدن الحيوان مرتعاً خصباً لنموّ الجراثيم والميكروبات، ومعرضاً لسرعة التعفّن والفساد.
ولم يقتصر تحريم الإسلام على هذه الأمور بل حرّم مطلق الخبائث، إذ قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} ( الأعراف : 157).
هذا مضافاً إلى أنّه حرّم تناول الخمور {بل كلّ مسكر (1) كما في الحديث} بقوله : {... إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ( المائدة : 90).
وفعل ذلك وقاية للإنسان من كثير من الأمراض والمضاعفات الناجمة عن المسكرات وتخلّصاً من الآثار والعواقب السيئة التي تتركها الخمرة على الجسم والعقل، بل وعلى النسل والذريّة. كما نهى القرآن الكريم عن الشراهة في الأكل، والإسراف في المطعم والمشرب فقال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} ( الأعراف : 31).
ومن المعلوم أنّ هذه الآية ـ على قصرها ـ تنطوي على أهمّ قانون من قوانين الوقاية الصحيّة، والحفاظ على سلامة البدن، فالإنسان إذا أكثر من الأكل أصيب بعسر الهضم الذي يستوجب أمراضاً عديدة للمعدة مذكورة في محلّها. وفي هذا السياق نجد الإسلام يفرض الصوم على المسلمين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة : 183)، لما في الصوم من فوائد عظيمة على البدن عرفها العلم الحديث أخيراً، وأخذ به لعلاج الكثير من الأمراض.
ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ، بل كشف القرآن للناس عمّا ينفعهم أو يشفيهم من بعض الأسقام فأشار إلى العسل فوصفه بأنّ فيه شفاء للأسقام إذ قال: {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل : 68 ـ 69).
كما حثّ على أمور من شأنها أن توفّر الأجواء الصالحة المناسبة لسلامة البدن في الجانب الفرديّ والاجتماعيّ كالتطهّر والنظافة، فحثّ على التزام التنظّف وتعاهده حتّى أنّ أوّل تعليم تلقّاه النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر : 4). وقال مادحاً الذين يتطهّرون: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة : 222) وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (التوبة : 108). والطهارة المذكورة أعمّ من طهارة النفس والجسد، وتنظيف الباطن والظاهر.
وينبّه القرآن الكريم إلى دور الماء في النظافة والطهارة فيقول: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (الفرقان : 48). ومن أجل هذا فرض الإسلام الوضوء فدعى إلى التوضّؤ قبل كلّ صلاة، أي في اليوم خمس مرّات (مضافاً إلى كونه بنفسه عبادة) إذ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (المائدة : 6).
ودعا إلى الاغتسال والاستحمام عند الجنابة فقال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (المائدة : 6). أو التيمّم بالتراب الطاهر بدلاً عن الغسل أو الوضوء إذا تعذّر الماء، أو تعسّر استعماله فقال: {... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} (المائدة : 6). وذلك لأنّ التراب الطاهر يصون الجسم من الميكروبات، مضافاً إلى أنّ التيمّم بالتراب يتضمّن الخضوع لله سبحانه وهو بنفسه عبادة.
وقد فرض الإسلام هذه الأنواع من الطهارات لأنّها طريق إلى نظافة الجسم وهي بدورها طريق إلى الحفاظ على سلامته... ولذلك قال القرآن معقّباً على الأمر بالوضوء أو الاغتسال أو التيمّم: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة : 6). وهي إشارة واضحة إلى الهدف من هذه الطهارات.
ومن هذا الباب نهى الإسلام عن مقاربة النساء (الأزواج) وهنّ في حالة (المحيض) وقاية عن الأمراض الجسمية والمعنويّة الناجمة عن ذلك فيقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة : 222).
وهو أمر أكّده الطبّ الحديث، وكشف عن أضراره بالنسبة إلى الزوج والزوجة معاً، فإنّ الدم الفاسد الذي تفرزه المرأة أثناء العادة الشهريّة يحتوي على ميكروبات عديدة وجراثيم متنوّعة لا تلبث أن تصيب الرجل فتحدث له الالتهابات، كمّا أنّه في زمن المحيض تحتقن أغشية المرأة الداخليّة، وفي المقاربة الجنسيّة قد يحدث لها التمزّق فتنتشر العدوى من الميكروبات، وتؤثّر في صحّة المرأة، وتضّر بها، وقد تسبّب لها السرطان، بسبب التمزّق كما يقول العلم الحديث.
كما نهى الإسلام عن (الزنا) وقاية من كثير من الأمراض الجنسيّة إذ يقول سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (الإسراء : 32) فالزنا ـ مضافاً إلى أنّها توجّه ضربة كبيرة إلى العلاقات الاجتماعيّة السليمة، والقيم الأخلاقيّة الرفيعة، تسبّب أمراضاً جنسيّة خطيرة كالزهريّ والقرحة والسيلان للرجل والمرأة كليهما.
هذه هي أهمّ التعاليم الصحيّة التي يشير إليها القرآن الكريم، وهي توافق في نتائجها، وفلسفتها، وعللها، أحدث ما توصّل إليه العلم الحديث.
_________________________
(1) قال الصادقّ (عليه السلام) : «حرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها وحرّم رسُولُ الله المُسكر من كُلّ شراب فأجاز الله لهُ ذلك كُلّهُ» الكافي 1 : 266
التّعاليم الصحيّة في القرآن الكريم
الشيخ جعفر السبحاني
أمانان لأهل الأرض
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
صفات الأيديولوجي؛ معاينة لرحلة الفاعل في ممارسة الأفكار (2)
محمود حيدر
في رحاب بقية الله: ختم الولاية
الشيخ معين دقيق العاملي
مناجاة الزاهدين(2): إليك نلتجئ من خُدع الدنيا
الشيخ محمد مصباح يزدي
معنى (عيش) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ
الفيض الكاشاني
التعلم القائم على اللعب: طرق مُثبتة لتعزيز نمو دماغ الطفل وتطوّر إدراكه وشحذ ذكائه
عدنان الحاجي
في رحاب بقية الله: العدالة المهدويّة ترسم المستقبل
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ
الشيخ محمد جواد مغنية
الصّاعدون كثيرًا
حبيب المعاتيق
أم البنين .. رواية من وجع الطف
حسين حسن آل جامع
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
التّعاليم الصحيّة في القرآن الكريم
أمانان لأهل الأرض
صفات الأيديولوجي؛ معاينة لرحلة الفاعل في ممارسة الأفكار (2)
في رحاب بقية الله: ختم الولاية
مناجاة الزاهدين(2): إليك نلتجئ من خُدع الدنيا
أحمد آل سعيد: تعديل السلوك حياة
جمعيّة الجشّ الخيريّة تختتم حملتها للتّبرّع بالدّم
الصّاعدون كثيرًا
صفات الأيديولوجي؛ معاينة لرحلة الفاعل في ممارسة الأفكار (1)
معنى (عيش) في القرآن الكريم