قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

القرآن وجاذبيّته العامة

نقرأ في قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ». (الرعد / 2). مما يستحق الاهتمام في هذه الآية، أنّ القرآن لا يقول: إنّ السماء ليس لها عمد، وإنّما يقول: ليس لها عمد قابل للرؤية والمشاهدة. يستفاد جيداً من هذا التعبير، أنّ أعمدة السماء غير مرئية وأنّ هذه الأعمدة هي التي أرست دعائم السماء «1».

 

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وقد سأله أحد أصحابه وهو «حسين بن خالد» عن معنى قوله تعالى: «وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ...». (الذاريات / 7). فقال الإمام عليه السلام: «سبحان اللَّه، أليس اللهُ يقول: «بغير عمدٍ ترونها»؟ قلت: بلى، فقال: ثَمَّ عمدٌ ولكن لا ترونها» «2».

 

فهل يوجد توجيه وتفسير لهذا الحديث سوى العمد الذي نطلق عليه في عصرنا هذا اسم «التوازن بين القوة الجاذبية والدافعة». وتوضيح ذلك، يكمن في أنّ النظرية الوحيدة التي غزت أفكار علماء ذلك العصر - زمان نزول القرآن الكريم - ومن ثم القرون السابقة واللاحقة، هي نظرية «الهيئة» لبطليموس التي سيطرت بقوة تامة على المحافل العلمية الدولية. ووفقاً لذلك صوَّرت السماوات على شكل كرات متداخلة نظير طبقات البصل المتلاصقة وكانت الأرض في مركزها، ومن الطبيعي أن تستند السماوات كل منها إلى الأخرى.

 

إلّا أنّه ثبت بطلان هذه العقيدة بالأدلة القطعية بعد مرور زهاء الألف سنة من نزول القرآن، وذهبت تماماً نظرية الأفلاك - قشور البصل - إلى غير رجعة، وأصبح من المسلّمات أنّ كلّاً من هذه الكرات السماوية معلقة وثابتة في مدارها وموضعها، وأنّ المجاميع والمنظومات متحركة، والشيء الوحيد الذي يحافظ على ثباتها واستقرارها هو نفس هذا التعادل بين القوة الجاذبة والدافعة.

 

إنّ الذي يتسبب في التحرك السريع لكل الكرات السماوية ومن ثم اجتماعها في مركز واحد، هو القوة الجاذبة - التي تقول: إنّ الجاذبية بين كل جسمين تتناسب طرديًّا مع وزنيهما، وعكسيًّا مع الجذر التربيعي للمسافة بينهما -، بَيدَ أنّ الحركة الدورية موجودة في الكواكب السيارة أو المنظومات - ولا يخفى أنّ الميزة الدورية هي نفس القوة الطاردة المركزية وهي التي تؤدّي إلى الابتعاد السريع لهذه الكرات والمنظومات عن بعضها (على شاكلة الهروب من دائرة النار في حالة دورانها وذلك عندما ينقطع سلكها ويتطاير الشرر من قطع النار المتقاذفة)، أمّا لو كانت القوة الجاذبة متساوية مع القوة الدافعة بدون أدنى نقيصة أو زيادة، فسيظهر في هذه الحالة العمد اللامرئي القوي حتى يثبتها في موضعها الخاص كما أنّ الكرة الأرضية تتحرك في دورانها حول الشمس بمدار معين ملايين السنين بدون أن تقترب منها أو تبتعد عنها، وهذه من دلائل عظمة اللَّه وإعجاز القرآن.

 

ومن الظريف أنّ المفسرين القدامى وقفوا على هذه النكتة إجمالًا، بيد أنّهم لم يعبِّروا عنها سوى بالقول بمسألة القدرة الإلهيّة، بحيث يقول «ابن عباس» وفقاً لنقل الطبرسي في «مجمع البيان» والآلوسي في «روح المعاني»: إنّ معنى الآية هو أنّ السماء تكون بدون عمد قابل للمشاهدة، وعليه يكون عمدها هو القدرة الإلهيّة الهائلة «3».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). يستفاد من ظاهر الآية أنّ «ترونها» وصف لــ «عمد»، وقول البعض: إنّ مفهوم الآية «ترونها بغير عمدٍ» هو أنّكم ترون السماء بغير عمد (وعلى هذا، فعبارة «بغير عمد» جار ومجرور ومضاف إليه متعلقة بــ «ترونها»)، خلاف الظاهر أولًا، وثانياً، إنّ هذا التعبير يشير إلى أنّكم ترون السماء بدون عمد في حين أنّ لها أعمدة في حقيقة الأمر.

(2). تفسير البرهان، ج 2، ص 278. ورد هذا الحديث في التفسير المزبور عن طريقين، عن تفسير علي بن إبراهيم، وكذلك عن تفسير العياشي.

(3). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 274؛ وتفسير روح المعاني، ج 13، ص 78.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد