مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

زهد فاطمة (عليها السلام)

(حبّ الدنيا رأس كل خطيئة).

 

بالاستناد إلى الحديث النبوي الشريف، وإلى ما تمخّضت عنه تجاربنا ومشاهداتنا في الحياة، فإنَّ كلَّ التجاوزات، الجنايات، الأكاذيب، الخيانات، الظلم، كانت نتيجةً لحب (المال) و (الجاه) و (الشهوة)، هنا يتضح أنّ الزهد والورع هما أساس التقوى والطهارة والصلاح.

 

ولكن يجب معرفة ماهية الزهد، فالزهد لا يعني ترك الدنيا، والرهبنة والاعتزال عن المجتمع، بل إنّ حقيقة الزهد هي الحرية وعدم الوقوع في شراك الدنيا.

 

فالزاهد مَن لم يتعلّق قلبه بالدنيا وإن كانت عنده، فلو أحسّ يوماً بأنّ رضا الله سبحانه وتعالى منوط بتركه لِما في يديه، كان مستعداً لهذا العمل، ويقول من أعماقه:

 

يا ليت بيني وبينك عامرٌ

وبيني وبين العالمين خرابُ

 

وإذا استدعى الحفاظ على الحرية والشرف والإيمان، أن يضحّي بحياته وروحه وماله، لم يتوانَ في ذلك، ويصرخ من أعماقه هيهات منا الذلة. وعلى حد قول القرآن الكريم في تعريفه للزاهد: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (1)

 

بعد هذه المقدمة القصيرة نتوجه إلى أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ونتعرّف من خلالها على وجهة نظره بشأن شخصية فاطمة (عليها السلام).

 

نقل (ابن حجر) وآخرون في رواية عن الرسول (صلّى الله عليه وآله):

 

(أخرج أحمد وغيره ما حاصله، أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان إذا قَدم من سفر أتى فاطمة، وأطال المكث عندها، ففي مرة صنعت لها مسكينِ من ورق وقلادة وقرطين، وستر باب بيتها، فقَدم (صلّى الله عليه وآله) ودخل عليها، ثمّ خرج وقد عُرف الغضب في وجهه، حتى جلس على المنبر فظنت أنّه إنّما فعل ذلك لمّا رأى ما صنعته، فأرسلت به إليه ليجعله في سبيل الله، فقال: (فعلت فداها أبوها - ثلاث مرات - ليست الدنيا من محمد ولا من آل محمد، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله في الخير جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)، ثمّ قال: فدخل صلّى الله عليه وآله عليها) (2).

 

من الواضح أن يكون ثمن السوارين والقرطين الفضيين والعقد الفضي زهيداً، والأزهد ثمناً منها ذلك الستار الذي يعلّقه الإنسان على باب الغرفة، غير أنّ الرسول (ص) كان يعتبر أنّ ذلك ليس من شأن فاطمة (عليها السلام)، بل يرى أنّ فضيلتها وكرامتها تكمن في خصالها الإنسانية.

 

تعلّمت فاطمة (عليها السلام) هذا الدرس من أبيها مباشرةً، حيث رمت بالدنيا وزخرفها جانباً، محرّرةً نفسها من ذلك الأسر من ناحية، وأنفقت ما في يدها في سبيل الله من ناحية أخرى.

 

ولم تكن (عليها السلام) تملك الحجاب الكافي، عند مجيء الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه لعيادتها، ممّا حدا به (صلّى الله عليه وآله) أن يناولها عباءته؛ لتستر نفسها وتستعد للضيوف الذين جاؤوا لعيادتها.

 

إنّ جهاز فاطمة (عليها السلام) ومراسم الزفاف التي جرت بمنتهى البساطة، وتفانيها في القيام على شؤون بيتها، حيث تحضن طفلها في إحدى يديها، وفي الأخرى تطحن الشعير لتهيّئ لهم الخبز، كل ذلك شواهد صادقة على زهدها العالي وإيمانها الصادق، ويشير الحديث التالي إلى هذا المعنى:

 

نقل أبو نعيم الأصفهاني في (حلية الأولياء): (لقد طحنت فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، حتى مجُلَت يدها، وربا وأثّر قطب الرحى في يدها) (3).

 

نُقل في (مسند أحمد) وهو أحد أشهر مصادر أهل السنة عن (أنس بن مالك) أنّه قال: إنّ بلالاً بطأ عن صلاة الصبح، فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله) (ما حبسك) فقال: مررت بفاطمة وهي تطحن، والصبي يبكي، فقلت لها إن شئتِ كفيتك الرحى وكفيتيني الصبي، وإن شئتِ كفيتك الصبي وكفيتيني الرحى، (فقالت أنا أَرفق بابني منك)، فذاك حبسني، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فرحمتها يرحمك الله) (4).

 

من الفضائل الأخلاقية التي تتحلّى بها سيدة النساء، هي الشجاعة والشهامة، في دفاعها عن أبيها الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) ضد مشركي مكة، كما أنّ مجيئها إلى ميدان أُحُد، وتضميدها جراح الرسول (صلّى الله عليه وآله)، لم يكن ليخفى عن أي أحد..

 

لقد سارت على طريق العبودية، وعبادة الله منذ ولادتها، وهي على هذا الحال إلى أن فارقت روحها الحياة، والحديث الآتي يدل على هذا المعنى.

 

جاء في (ذخائر العقبى) ما جاء في قصة ولادة فاطمة الزهراء (عليه السلام)، وانعقاد نطفتها من ثمار الجنة، وحضور النساء الأربع عند ولادتها: (فوُلدت فاطمة (عليها السلام)، فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدةً) (5).

 

ونطالع في نفس المصدر روايةً تدلُّ على سموها وعفتها، حيث تنقل (أسماء بنت عميس) هذه القصة العجيبة: قالت فاطمة (عليها السلام) لأسماء بنت عميس: (يا أسماء، إنّي استقبحت ما يُصنع بالنساء، إنّه يُطرح على المرأة الثوب فيصفّها، وقالت أسماء: يا ابنة رسول الله، أَلا أُريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة فحنّتها، ثمّ طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة (عليها السلام): ما أحسن هذا وأجمله، تُعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت فاغسليني أنتِ وعلي ولا يدخل عليَّ أحد).

 

وجاء في نهاية هذا الحديث. إنّ فاطمة (عليها السلام) لمّا رأت النعش تبسّمت، وما رُؤيت مبتسمةً بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) قط (6).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. سورة الحديد، آية 23.

2. الصواعق المحرقة، ص 109.

3. حلية الأولياء، ج2، ص41.

4. مسند أحمد، ج3، ص150.

5. ذخائر العقبى، ص44.

6. ذخائر العقبى، ص54.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد