فجر الجمعة

العلّامة النمر متحدّثًا عن الشّموليّة في الإحسان

خطبة سماحة العلاّمة السيد حسن النمر ليوم الجمعة (1445/11/1هـ) حول «الشّموليّة في الإحسان» ألقاها في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاه والسلام على سيد الخلق وأشرف الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين. ربّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وإن التقوى لا تنال اعتباطًا، بل إن لها سبلًا وأسبابًا، فمن لم يعمل على تحصيلها، لا يكون من المتّقين، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

 

 كما أن للتقوى أسوارًا وحصونًا، من لم يعمل على تشييدها فلن يبقى في المتقين، قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾. وفي هذا السياق روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال في خطبة له "فيهم -يعني أهل البيت عليهم السلام- فيهم كرائم القرآن، وهم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا". والإمام عليه السلام في هذه الفقره يخاطب المسلمين الذين يعتقدون بالله تعالى ربًّا من أبرز صفاته الغنى في ذاته والرحمة بعباده واللطف بهم وإن من مظاهر غناه أن لديه كنوزًا ماديةً ومعنويةً، وإن من مظاهر رحمته ولطفه بعباده أن انزل إليهم قرآنًا من خصائصه أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنه يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين، وإن لهذا القرآن حملة يعلمون ظاهره وباطنه، ويعرفون كنوز الله فيه، والتي هي كرائم القرآن، وهذه الكرائم في العترة من أهل البيت عليهم السلام، ولا بد من التنبيه إلى أن هذا القول من أمير المؤمنين عليه السلام، مأخوذ مما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شهادة في حق العترة، حيث قال فيما رواه أحمد في مسنده: "إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتيأاهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض".

 

ومن هنا فإن لهم عليهم السلام مرجعية علمية ليست لغيرهم، ولا يسوغ مقارنة غيرهم بهم، ناهيك عن تقديم غيرهم عليهم، ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام، فرّع على ذلك قوله: "فليصدق رائد أهله وليحضر عقله". وهو عليه السلام في هذه المقالة ينبه إلى أن على الإنسان الذي كلفه الله بأمانه أوجب عليه أن يحفظها، ويؤديها ألى من استأمنه عليها، كما أنه زوده بما يعينه على أن يكون أمينًا، وهذا الزاد هو عقله الذي به يحسن الاختيار فعلى الإنسان أن يكون صادقًا مع نفسه، ومع أهله ومجتمعه، فينأى عن الغش والتدليس، والمراوغة والكذب، وليسمّ الأشياء بأسمائها، وليضع النقاط على الحروف.

 

ثم إن الإمام عليه السلام يلحق بذلك ما يعد نتيجة منطقية لرعاية الأمانة وإعمال العقل، فقال مخاطبًا هذا الإنسان: "وليكن من أبناء الآخرة فإنه منها قدم وإليها ينقلب". وهذا يعني أن على الإنسان يدرك أن الدنيا الفانية ليست جديرة بأن يزاحم بها الآخره الباقية، فهو قادم منها ومنقلب إليها، أي إنه مخلوق للبقاء وليس للفناء، وهذا يعني أن علاقته بالدنيا مهما امتد به العمر، هي علاقة مؤقتة وهو شاء أم أبى مرتحل عنها، فهي دار ممر وليست دار مقر، قال تعالى مخاطًبا أشرف خلقه: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ وقال تعالى:  ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾.

 

 والسؤال الحاسم بعد هذا أن نقول ما الذي يجب علينا عمله، يجيبنا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "فالناظر بالقلب العامل بالبصر يكون مبتدأ عمله أن يعلم أعمله عليه أم له، فإن كان له مضى فيه، وإن كان عليه وقف عنه، فإن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح إلا بعدًا من حاجته، والعامل العالم كالسائر على الطريق الواضح فلينظر ناظر سائر هو أم راجع". والإمام عليه السلام في هذه الفقرة ينبه كل من كان له قلب يقف وعمى نظر فيه من آيات التكوين والتشريع ولم تشغله الشواغل أو تلهه الملهيات، وكل من كان له بصر نافذ، لا يجد بدًّا من العمل بما نظر فيه، وعرف ما يجب عليه فعله أو تركه، وهذا ينبهنا بالضروره إلى ثلاثة أمور، أولها أنه لا متسع لديه -أي هذا الإنسان- أنه لا متسع لديه للكسل والتواني، بل إن أمام الإنسان مشوارًا طويلًا من العمل، وإن هذا العمل يجب أن يتخيّر فيه ما يصب في مصلحته، وهو ما له، وأن يتجنّب فيه ما كان مضرًّا وهو الذي عليه.

 

ثانيها أن يعمل الإنسان بشرط أن يكون عمله جامعًا لشرائط الصحة والقبول، أي على المنهاج القويم والصراط المستقي،م فلا ينحرف يمينًا أو شمالًا.  

 

ثالثها أن على الإنسان إكمال المشوار إلى آخره، فليس له أن يستقيم في آن ويعوّج في آن بعده، بل أن يستقيم ويظل مستقيمًا إلى أن يفد على ربه عز وجل، قال تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. وفُسّر بالموت.

 

ولا يكتفي أمير المؤمنين عليه السلام في جميل مقاله بما تقدّم، بل يتممه بقوله: "واعلم أن لكل ظاهر باطنًا على مثاله، فما طاب ظاهره طاب باطنه، وما خبث ظاهره خبث باطنه". وهو عليه السلام يشير بكلامه هذا، إلى قاعدة عامة ولكل قاعدة شواذ، كما قالوا مفادها أن أفعال الناس وأقوالهم، تحكي في العادة معتقداتهم ونواياهم، وهكذا ينبغي أن نتعاطى معها ما لم يتبين لنا خلافها، وهذه القاعدة تجري في حكمنا على أفعال الآخرين وعلى أفعالنا، فإذا وجدنا فعلًا حسًنا، فلنتعامل معه على أنه كاشف عن باطن حسن، وفي المقابل فإننا إذا وجدنا فعلًا قبيحًا، فلندقّ ناقوس الخطر بالحذر والمراقبه والمعالجة بالحسنى، قال تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾.

 

ثم إنّ أمير المؤمنين عليًّا عليه السلام، نبّه إلى ملاحظتين جديرتين بالاهتمام، الأولى أن لكل قاعدة استثناء، وأكد ذلك بما رواه عن الرسول الصادق صلى الله عليه وآله أنه قال: "إن الله يحب العبد ويبغض عمله، ويحب العمل ويبغض بدنه". يريد بذلك إمكانية التفكيك بين العامل والعمل، فقد يصدر من الإنسان الطيب -وهو محبوب عند الله- عمل غير حسن وغير محبوب، وقد يصدر من الإنسان المبغوض لله تعالى عمل حسن في ظاهره.

 

 الملاحظه الثانيه أن التقوى لا تنشأ من فراغ، وأن العمل الصالح لا بدّ له من بيئة وأسباب، فما لم نعمل على توفير ذلك فلن يتيسر لنا أن نتّقي على مستوى الفعل، ولا أن نكون من المتقين على مستوى الذات، فللحسن مراتب ثلاث، أولها أن يكون في الفعل دون الفاعل، بمعنى أن يصدر من الإنسان فعل له ثمرات طيبة ونافعة، والطيب والنفع نسبيان، كأن يشيد الإنسان مدارس ومستشفيات، ويعين الفقراء والمحتاجين، وأن يكون مريدًا بذلك وجه الله والدار الآخرة، فهذه الأفعال حسنة، وهذه المرتبة من الإحسان الفعلي مطلوبة لكنّها مرتبة دنيا.  

 

ثانيها أن يكون الحسن في الفاعل دون الفعل بمعنى أن يكون الإنسان في ذاته مؤمنًا محسنًا، لكن لا يقوم بفعل الخير وهو قادر عليه، وهذه مرتبة من الإحسان مطلوبة وهي أعلى من سابقتها لكنها متوسطة.

 

ثالثها أن يجتمع وصف الحسن في الفعل والفاعل معًا، بأن يكون الإنسان مؤمنًا محسنًا في ذاته، ومحسنًا في فعله، وهذه المرتبة من حسن الفعل والفاعل، هي أعلى مراتب الإحسان وأفضلها، قال تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾.

 

وأما كيف تتوفر هذه البيئة، فإن الإمام عليًّا عليه السلام يبيّن ذلك بقوله: "واعلم أن لكل عمل نباتًا وكل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته، وما خبث سقيه خبث غرسه وأمرّت ثمرته، أو وأُمرّت ثمرته".

 

فعلى من أراد أن يكون فعله حسنًا، وأن يكون هو من المحسنين، فإن عليه أن يحرص على أن يسقي زرعه بماء طيب، والماء هنا هو العلم الحق من أهل الحق الذين هم أولوا الألباب قال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾. فالميزان في القرب من الله تعالى والبعد عنه، هو الطيب والخبث، فلا يصدر منه سبحانه إلا الطيب والحسن، ولا يصعد إليه إلا الطيب والحسن، ولا يوفق إلى أخذ الطيب والحسن، إلا من كان طيبًا وحسنًا، وسعى في أن يكون كذلك، وأمّا من خبثت ذاته وساء فعله، فإنه يحرم من كل ذلك بقدر ما عنده من الخبث والسوء، فآيات الله وكذا القرآن الكريم الذي وصفه الله تعالى بأنه يهدي للتي هي أقوم، جاء النصّ أن ما فيهما من الآيات هي لقوم يوقنون تارة، ولقوم يعقلون أخرى، ولقوم يتفكرون ثالثة، ولقوم يؤمنون رابعة، ولقوم يتذكرون خامسة، ولقوم يشكرون سادسة، ولقوم يتقون سابعة، ولقوم يسمعون ثامنة، ولقوم يوقنون تاسعة، وما ذلك إلا لأن من تحلّى بهذه الصفات هو الطيب على اختلاف مراتبهم في الاتصاف بها، وإن من خالفهم فهو الخبيث الظالم، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾.

 

ومن المعلوم أنه لا يكفي أن يكون الإنسان طيبًا في أصله وبداياته، ولا أن يكون كذلك في وسط حياته، بل يلزمه أن يختم حياته بذلك، والدليل قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾ ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. نسأل الله أن نكون وإياكم من المحسنين ذاتًا وفعلًا، وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، وليًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليلًا وعينًا، حتى تسكنه أرضك طوعًا، وتمتعه فيها طويلًا، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين، واردد كيدهم إلى نحورهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، يا قوي يا عزيز، اللهم من أرادنا بسوء فأرده ومن كادنا فكده، اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وأغن فقراءنا، وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا، ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد