المترجم: عدنان أحمد الحاجي
ربما يدرك الآباء والأمهات كيف تسير الأمور في صباحات أيام المدارس، التي غالبًا ما تكون مزدحمة ومضطربة بملاحقة الأطفال واستعجالهم على تناول وجبات إفطارهم وتنظيف أسنانهم وارتداء ملابسهم وأحذيتهم - حتى يذهبوا إلى مدارسهم!
معظم الأطفال الصغار لا يستطيعون عادةً إدارة هذه الروتينات الصباحية بمفردهم، ولا يستطيعون التعامل مع جميع متطلبات الاستعداد بأنفسهم. ذلك لأنهم يفتقرون إلى الوظائف التنفيذية الضرورية (1). هذه الوظائف هي مجموعة القدرات العقلية، مثل التنظيم الذاتي وتركيز الانتباه وضبط النفس والتحكم في الانفعالات. هذه القدرات هي التي تؤثر في كيف يتخذ الناس قراراتهم الهادفة التي تتوافق مع أهدافهم.
هذه القدرات هي التي تُمكّن النّاس من إنجاز مهامهم، سواءً أكانت بسيطة (مثل إعداد وجبة الإفطار) أم كبيرة (مثل بناء سيرة مهنية رصينة). ولذلك، يبقى الأطفال الصغار في حاجة إلى تلقي التوجيه من والديهم.
تُمثل مرحلة الطفولة المبكرة فترةً من التطور الملحوظ في الوظائف التنفيذية (2). تتمثل المهارات أو القدرات العقلية في الذاكرة والتركيز وضبط النفس (التحكم التثبيطي) في مرحلة الطفولة.
تُثبت الدراسات أن الأطفال الذين لديهم وظائف تنفيذية أفضل، من شأنهم أن يصبحو راشدين مستقرين ماليًّا وأصحاء ومنتجين (3)، يُديرون أموالهم بحكمة، ويحافظون على صحتهم، ويُحققون نجاحًا في الحياة. لهذا السبب، يسعى الكثير من علماء النفس والمعلمين إلى إيجاد أساليب لتعزيز هذه القدرات في وقت مبكر من حياة الأطفال لتطوير وتنمية هذه المهارات، مما قد يُهيئهم للنجاح في مرحلة الرشد.
بالرغم من أهمية ضبط النفس أو التحكم التثبيطي عند الأطفال، إلّا أن محاولات الباحثين فهم مصدرها وكيفية تدريب الأطفال عليها باءت بالفشل في الغالب. إذ بُذلت محاولات عديدة لتدريب الأطفال عليها، على أمل أن يُترجم هذا التحسن إلى مهارات إدراكية أخرى [مثل الذاكرة العاملة والتحكم التثبيطي (4) والمرونة الإدراكية (5)] (6). لكن هذه المحاولات باءت بالفشل إلى حد كبير.
الجدير بالذكر، أن الوظيفة التنفيذية هي مجموعة من العمليات الدماغية التي تتطور تدريجيًّا مع الخبرة والبلوغ، لذا فإن الدروس أو التمارين القصيرة لم تُثبت فعاليتها.
بصفتنا باحثين في علم النفس (7) فإن الدراسة الجديدة التي أجريناها في مختبر الانتباه والدماغ والإدراك في جامعة تينيسي (8)، ربما وجدت بعض الإجابات عن كيف تطورت الوظائف التنفيذية (9).
افترضنا أن التحسينات ستمتد وتتطور تلقائيًّا إلى مهارات أخرى - ولكن حتى لو تحسن الأطفال في مهمة محددة (مثلًا، في الذاكرة) فإن ذلك غالبًا لا ينتقل إلى قدرات أوسع مثل التحكم التثبيطي في الحياة الواقعية.
أولاً، بالرغم من أن الأطفال قد تعلموا في هذه التجارب مهامًا محددة (6)، إلا أنهم لم يتعلموا مهاراتٍ يمكن أن تترجم إلى الحياة الواقعية. هذه الحالة تشبه كيف أن الدراسة لاختبار القدرات ACT، لقبول الطلاب في الجامعات، قد تُحسّن الأداء في هذا الاختبار، لكنها لا تُحسّن بالضرورة المهارات اللازمة للوظائف المهنية المستقبلية. ثانيًا، من الناحية الفنية، يُعدّ قياس نشاط الدماغ لدى الأطفال الصغار مسألة بالغة الصعوبة. فالتصوير بالرنين المغناطيسي مُقيّد ومحدود جدًّا، من ناحية مساحة الاستلقاء المتاحة للمريض والحركة المقيدة جدًّا داخل الجهاز المطلوبة لجودة التصوير - ناهيك عن كونه مُخيفًا بالنسبة للأطفال - بحيث لا يُمكن إجراؤه عليهم أثناء أداء المهام الموكلة إليهم.
وضعنا على رؤوس الأطفال في مختبرنا قبعات خفيفة الوزن مزودة بمستشعرات الأشعة تحت الحمراء القريبة (10) لقياس مناطق الدماغ النشطة أثناء مهام التصنيف. جامعة تينيسي، نوكسفيل.
أدوات جديدة تُقدّم أفكارًا جديدة
يوظف الكثير من الباحثين الآن جهاز التصوير العصبي الأكثر ملاءمة للأطفال يُسمى جهاز التحليل الطيفي الوظيفي للأشعة تحت الحمراء القريبة، والذي يشمل وضع مستشعرات على رأس الطفل - عادةً على شكل قبعة خفيفة الوزن - لتتبع وظائف الدماغ. يراقب جهاز الليزر هذا تدفق الدم في الطبقة الخارجية من الدماغ، المعروفة باسم القشرة السطحية (11). يشير تدفق الدم إلى مستوى النشاط العصبي (12) ويكشف عن مناطق الدماغ الأكثر نشاطًا.
لحل هذه المشكلة، طوّر فريقنا تقنيات محاكاة للصور ثلاثية الأبعاد التي تُمكّننا من تتبع المواقع التي فيها نشاط دماغي. باستخدام النموذج ثلاثي الأبعاد، يُمكننا رسم خريطة وقياس مناطق دماغ كل طفل على حدة.
مكّنا جهاز التحليل المتقدم (13) من جمع تسجيلات نشاط الدماغ المتعددة من متابعتنا لنفس الأطفال لفترة طويلة على مدار عدة سنوات في مراحل عمرية مختلفة. تأكدنا من أن أجهزة الاستشعار كانت في مواقعها الصحيحة والمتسقة على رؤوس الأطفال في كل مرحلة من مراحل هذه الدراسة البحثية. أعطينا الأطفال أنواعًا عديدة من الاختبارات أو الأنشطة المصممة لقياس وظائف الدماغ الإدراكية المختلفة (المذكورة أعلاه)، تمكنّا من التعرف على مناطق دماغ الطفل النشطة أثناء تطور الوظائف التنفيذية.
فهم طبيعة الوظيفة التنفيذية
أهم جوانب الوظيفة التنفيذية هي القدرة على فلترة (اختيار) المعلومات ذات العلاقة لإكمال الأهداف وإهمال غيرها من المعلومات غير ذات العلاقة.
واستنادًا إلى دراسات سابقة حول الوظائف التنفيذية ونموذجنا الرياضي لشبكة الدماغ العصبية، يعتقد فريقنا أن المفتاح يكمن في عملية أطلقنا عليه "تعلم التسمية" (أسماء الأشياء أو تصنيف الأشياء بناءً على أسمائها وفئاتها المختلفة التي تندرج تحتها) (14). فمعرفة أسماء الأشياء وتصنيفاتها يساعد الطفل على معرفة المعلومات الصحيحة وذات العلاقة بالهدف وتحديد الأولويات وتجاهل ما ليس له علاقة بالهدف، وفي النهاية تطوير مهارات وظيفية تنفيذية أقوى. وهذه التصنيفات تساعد على توفير الوقت والجهد وتجنب المشتتات وسرعة التعلم والاستنتاج واتخاذ القرارات الصحيحة وتحسين الكفاءة.
لذا فإن كل هذا التعلم في السنوات الأولى من حياة الطفل فيما يتعلق بالأساسيات مثل التصنيفات بحسب السمات الفيزيائية (مثل اللون والشكل والأصوات والكلمات الأساسية) يعد الطفل لحياة يستطيع فيها التعرف على ما يحتاج إليه لوضع أهدافه، بسيطة كانت أم كبيرة، وتحقيقها. فالوقت الذي يقضيه الأطفال في تعلّم السمات الفيزيائية ليس تعلمًا أكاديميًّا فحسب، بل هو تدريب لأدمغتهم على التعرف على الأنماط وفهم كيف يجدون الأشياء الضرورية بحسب تصنيفها واستخدامها بشكل إبداعي لتحقيق الأهداف.
علاوة على ذلك، فإن فهم طريقة التعرف على الأشياء وتسميتها يساعد على التحلي بالمرونة الإدراكية وملاحظة الجوانب المختلفة للشيء في حال تغيرت الأهداف. على سبيل المثال، إذا لم يتوفر حليب بقر، ويعلم أن حليب اللوز يندرج ضمن نفس الفئة، فهذا يمكن الشخص من استخدامه كبديل لحليب البقر. بهذه الطريقة، معرفة التسميات لتصنيف الأشياء يمكن الشخص من التعرف على المعلومات ذات العلاقة بالهدف والتصرف بناءً عليها أو العمل عليها. كما أن معرفة تسميات الأشياء وفئاتها من شأنها أن تساعد على إيجاد البدائل بسرعة واتخاذ خيارات جيدة عندما لا تُجدي الأولى نفعًا.
النتائج التي توصلنا إليها
باستخدام جهاز التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء القريبة، فحصنا وظائف الدماغ لعشرين طفلاً خلال سلسلة من المهام كلفناهم بها. قمنا أولاً بتقييم فهمهم للمسميات في سن الثانية والنصف، وذلك بطرح أسئلة بسيطة عن هذه الأشياء، مثل: "أي الأشياء لها لون أحمر؟" أو "ما لون هذا الشيء؟". هذه التجربة كانت لمعرفة ما إذا كان الطفل يعرف معنى كلمة أحمر.
بعد عامين من التجربة الأولى، بعد أن بلغ الأطفال سن الرابعة والنصف، أعدناهم إلى المختبر لأداء مهمة تتعلق بالوظائف التنفيذية. في البداية، لعبوا بضع جولات من لعبة فرز الأشكال. ثم طلب منهم مساعد البحث تغيير المهمة الأولى إلى مهمة فرز وتصنيف نفس الأشياء حسب لونها. تتطلب هذه المهمة مرونة إدراكية (5)، أي القدرة على التفكير بعد أن تغيرت المطالب والشروط.
استخدم الباحثون جهاز مطيافية الأشعة تحت الحمراء القريبة لدراسة نشاط الدماغ خلال هذه المهام، في محاولة لفهم كيفية ارتباط المعرفة المبكرة بالتسميات (في سن سنتين ونصف) بمهارات التفكير اللاحقة (في سن أربع سنوات ونصف).
وجدنا أن أنماط نشاط الدماغ اختلفت قبل وبعد تعلم الأطفال تصنيف الأشياء حسب السمات الفيزيائية (الشكل واللون). بالإضافة إلى ذلك، وجدنا أن الأطفال الذين أظهروا نشاطًا أقوى في منطقة القشرة الأمامية في الدماغ [وهي منطقة في الدماغ مرتبطة بالتخطيط واتخاذ القرار والمرونة الإدراكية] أثناء عملهم على مهام التصنيف البسيطة ("أيهما أحمر؟ مثلًا) أثناء مهمة التصنيف حسب الألوان والأشكال البسيطة في سن الثانية والنصف، حققوا أداءً أفضل في المهمة المعقدة في سن الرابعة والنصف. نعتقد أن هذا يشير إلى أن هؤلاء الأطفال في سن الثانية والنصف كانوا أكثر تقدمًا في مسار نموهم وتطورهم في تعلم تصنيف الأشياء التي حولهم، وبالتالي كانت لديهم قدرات إدراكية عصبية أكثر ثراءً في سن الرابعة والنصف عند أداء مهمة الوظائف التنفيذية المعقدة. وهذا يعني أن الدماغ يتكيف مع تعلم الأطفال فرز الأشياء حسب فئاتها. ويعتقد الباحثون أن هذا يعني أن الأطفال الذين هم بالفعل أكثر تقدمًا في تعلم التصنيف حسب السمات الفيزيائية في سن سنتين ونصف لديهم قدرات إدراكية عصبية أفضل. تمنحهم هذه الموارد قدرة لاحقًا عندما يواجهون تحديات فكرية أكثر تعقيدًا.
بعبارة أخرى، بدا أن الأطفال الذين كانوا بالفعل أفضل في التعرف على الأشياء وتسميتها في سن الثانية والنصف قد بنوا القدرات الذهنية اللازمة للتعامل مع مهام تفكير أكثر تعقيدًا حين بلغ سنهم الرابعة والنصف.
اكتساب القدرة على التسميات والتصنيفات لا يساعد الأطفال على الكلام فحسب، بل يساعدهم أيضًا على التفكير والتحكم في تصرفاتهم. يتبين ذلك من قدرتهم على التركيز على سمات فيريتئية معينة للأشياء (مثل اللون أو الشكل). هذا التركيز يساعدهم على اتخاذ القرارات والتحكم في أفعالهم - على سبيل المثال، فرز المكعبات حسب اللون لأنهم يفهمون ويستطيعون التركيز على اللون "الأحمر" مقابل اللون "الأزرق".
فالتسميات والتصنيفات أدوات تساعد الأطفال على الانتباه وتوجيه وضبط السلوك، وليست مجرد كلمات يتلفظون بها. تفيد نتائجنا إلى أن اكتساب القدرة على التسمية يتجاوز اكتساب اللغة، ويؤثر في مدى تحكم الأطفال في سلوكهم وضبطه. أي أنه من خلال إيجاد طرق لتسمية جوانب مختلفة من الأشياء أو البيئة، يمتلك الأطفال طرقًا للتركيز إدراكيًّا على تلك المعلومات لتوجيه سلوكهم.
ماذا بعد؟
تفتح نتائجنا الباب واسعًا أمام إيجاد طرق لتدريب الأطفال على اكتساب قدرات الوظائف التنفيذية. يمكن للباحثين الآن محاولة ابتكار تدخلات تركز على التدريب على تسميات الأشياء وتصنيفها بناءً على خصائصها الفيزيائية. ومن المرجح أن يعتمد تدريب الأطفال على نوع التعلم الذي يحدث بشكل طبيعي أثناء اللعب مع الأم و/ أو الأب، وكذلك من خلال كتب الأطفال ومقاطع الفيديو التعليمية والترفيهية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- https://my.clevelandclinic.org/health/articles/executive-function
2- https://www.pnas.org/doi/full/10.1073/pnas.2010211118
3- https://www.pnas.org/doi/full/10.1073/pnas.1010076108
4- https://ar.wikipedia.org/wiki/تحكم_تثبيطي
5- http://https://ar.wikipedia.org/wiki/مرونة_إدراكية
6- https://psycnet.apa.org/fulltext/2019-01878-002.html
7- https://scholar.google.com/citations?user=7HiIf9EAAAAJ&hl=en&oi=ao
8- https://abclabutk.weebly.com
9- https://srcd.onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/mono.12478
10- https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S089958852300076X?via=ihub
11- https://www.sciencedirect.com/topics/engineering/cortical-surface
12- https://royalsocietypublishing.org/doi/10.1098/rstb.2019.0624
14- https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0273229724000662?via=ihub
المصدر الرئيس
عدنان الحاجي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
الشيخ حسن المصطفوي
الشيخ د .أحمد الوائلي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد جعفر مرتضى
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
الشيخ محمد مهدي النراقي
الشيخ محمد جواد مغنية
حسين حسن آل جامع
حبيب المعاتيق
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ناجي حرابة
أحمد الرويعي
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
كيف يستخدم الدماغ المعالم البصرية للاهتداء بها؟ وكيف نفهم فشل المصابين بالزهايمر في ذلك؟
السير النزولي للإنسان
معنى (كبر) في القرآن الكريم
كيف يدنو؟!
الزهراء (ع) ودور المرأة في المجتمع الصالح (1)
حنّت، وأنّت، ومدّت يديها!
هل ذكر الإنجيل مأساة فاطمة (ع) بنت محمد (ص)؟
زهد فاطمة (عليها السلام)
أحب الناس إلى الرسول الكريم (ص)
معنى (سيل) في القرآن الكريم