علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
محمود حيدر
عن الكاتب :
مفكر وباحث في الفلسفة السياسية، مدير التحرير المركزي لفصلية "الاستغراب".

فينومينولوجيا الغيب، بَداؤها عينُ خفائِها (4)

دُرْبة الاقتراب من فينومينولوجيا الغيب

 

في حقبةٍ تاليةٍ من تطوُّره الفكريِّ سوف يستأنفُ هايدغر ما توقَّف عنده أستاذه هوسرل، أي وجوب تفعيل نظريَّة فهم الأصل الذي نشأت منه الظواهر. لقد كان من البيِّن لديه أنَّ الفشل الأساسيَّ للتفكير الميتافيزيقيِّ، هو أنَّه تصوَّر الكينونة كأرضيَّة أبديَّة ثابتة وغير متغيِّرة، أي أنَّها السبب الأوَّل causa sui، أو «المحرِّك غير المتحرِّك».. أو بما هي «حضور دائم» standige Anwesenheit, stetes Vorhandensein، «قائم الآن» nunc stans.ّ [An Introduction to Metaphysics, trans. Ralph Manheim (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1959), pp. I8o-82, 193].

 

لكنَّ الكينونة – حسب تصوُّره الَّلاحق- ليست سببًا أو أرضيَّة أبديَّة بل إنَّها حدثٌ Ereignis – «يمنح» أو «يعطي» أكثر من أيِّ سبب أو أرضيَّة. ولأنَّها حدث، فستصبح «أكثر غموضًا من أيِّ شيء غامض، وأبسط من البسيط، وأقرب من القريب، بل وأبعد من البعيد، الذي فيه نحن البشر نعيش حياتنا الزمنيَّة». لكن، أيُّ نوع من الحدث هي هذه الكينونَّة؟ يجيب هايدغر بأنَّها حدث الوحي أو الانكشاف Unverborgenhei، وبالتالي فهي ليست شيئًا، «كائنًا» يمكن الكشف عنه في حدِّ ذاته. بل هي حدث «الإضاءة»، الفسحةLichtung ، الذي ينير الكائنات بما في ذلك الإنسان.

 

على هذا النحو، تبقى الكينونة غير مرئيَّة، بل «الأكثر خفاء من الخفيّ». وأمَّا كشف الكائنات فيعني جعلها تتفتَّح، و«تحريرها»، والسَّماح لها بأن تظهر على أنَّها ما هي عليه. ومن ثمَّ فإنّ حدث الوجود هو حدث كشف الحقيقة. وباعتبارها حدثًا يؤسِّس العالم، فإنَّ الكينونة هي في الأساس ذات طابع زمانيٍّ. بل إنَّها في جوهرها هي الزمان نفسه. وفقًا لغادامير، استطاع هايدغر أن يحطِّم «المخطَّط الترنسندنتاليَّ» للفلسفة ما بعد الديكارتيَّة والكانطيَّة، والذي يكون الزمان بموجبه وظيفةً للوعي الذاتيِّ، والشكلَ البديهيِّ الخالص للحدس الذي يتمُّ بوساطته اختبار العالم.

 

كفَّت الميتافيزيقا التي عهدناها مع قدماء الإغريق عن أن تكون العلم بإلهيّات ما بعد الطبيعة. جرى هذا من بعد أنسها المتمادي بالمفاهيم، حتى لقد أخلدت إلى دنيا الطبيعة، ودارت مدارها، ولم تكن في مجمل أحوالها ومشاغلها سوى مكوثٍ مديدٍ على ضفاف الكون المرئيّ. لقد انسحرت الفلسفة الأولى بالبادي الأوَّل حتى أشركته مُبديه وبارئه، ثمَّ راحت تخلع عليه ما لا حصر له من ظنون الأسماء: المحرِّك الأوَّل غير المتحرِّك، «النومين أو الشيء في ذاته»، «العلَّة الأولى» و«المادة الأولى أو الهيولى»، وأخيرًا وليس آخرًا «القديم والأزلي».. وجريًا على هذه الحكاية ستنتهي إلى نعته بالموجود الذي أوجد ذاته بذاته من عدم، ولمَّا أن وُجِدَ لم يكن له من حاجة إلى تلقّي الرعاية من سواه. هو بحسب «ميتافيزيقاهم» كائنٌ مكتفٍ بذاته، ناشطٌ من تلقاء ذاته، ومتروكٌ لأمر ذاته.

 

الفلسفة الحديثة – حتى وهي في ذروة دهشتها بذاتها – لم تَبرح هذه المعضلة الموروثة عن السّلَف الإغريقيّ. مبدأُها المنبسطُ على ثنائيَّة «النومين» و«الفينومين» ظلَّ ملازمًا لها كما هو في نشأته الأولى. وبسببٍ من هذه الملازَمَة تجدَّدت ألوانُ المعضلة وتكثَّرت أنواعُها، واستدام الاختصامُ والفرقةُ بين جناحَيْ الثنائيَّة. ولمَّا لم يكن لهذا المبدأ أن يبلغ مقام الجمع بين الجناحين، أفضت الإثنينيَّةُ في غُلُوِّها الإنشطاريِّ إلى وثنيّةٍ صارخةٍ حلَّت ورسخت في قلب الميتافيزيقا، قديمِها ومستحدَثِها. من هذا النحو، لم يُفلح النّظامُ الفلسفيُّ الكلاسيكيُّ في مجاوزة معضلته الكبرى المتمثِّلة بالقطيعة الأنطولوجيَّة بين الله والعالم. وهو حين تصدّى لمقولة الوجود بذاته، أخفق في إدراك حقيقته، ثمَّ أعرض عنها وأخلد إلى الاستدلال المنطقيِّ والتجربة الحسِّيَّة. لهذا ظلَّ الموجود الأوَّل في هندسة العقل المقيَّد بالمقولات العشر لغزًا يدور مدار الظنِّ، ولمَّا يبلغ اليقين.

 

وبسببٍ من قيديَّته سَرَت ظنونُهُ إلى سائر الموجودات ليصير الشكُّ سيّدَ التفلسُف منذ اليونان إلى ما بعد الحداثة. من أجل ذلك، سنرى كيف سيُخفقُ التاريخُ الغربيُّ رغم احتمائه بهندسات العقل الذكيِّ، في إحداث مسيرة حضاريَّة مظفَّرة نحو النور والسعادة. فلقد تخلَّل ذلك التاريخ انحدار عميق إلى دوَّامة المفاهيم والاستغراق مليًّا في أعراض المرئيَّات الفانية. النتيجة أنَّه كلَّما ازدادت محاولة الإنسان فهم دنياهُ وعالمِهِ الواقعيِّ ازداد نسيانُه ما هو جوهريّ. والنُّظَّار الذين قالوا بهذا لا يحصرون أحكامهم بتاريخ الحداثة، بل يُرجعِونها إلى مؤثِّرات الإغريق، حيث وُلِدت الإرهاصاتُ الأولى لتأوُّلات العقل الأدنى. وهو العقل إيَّاه الذي سترثه الفلسفات اللَّاحقة، لتصبح العقلانيَّةُ العلميَّةُ معها حَكَمًا لا ينازِعُه منازعٌ في فهم الوجود وحقائقه المستترة. وكحصيلة لمسارات العقل الأدنى ستأخذ الثورة التقنيَّة صورتها الجليِّة، لِتَفْتتِحَ أفقًا تفكيريًّا سيعمِّقُ القطيعةَ مع أصل التكوين وحقيقة الوجود.

 

لم تهمل الميتافيزيقيا التقليديَّة (القبليَّة) حقيقة الوجود فحسب، بل أهملت أيضًا حقيقة الحقيقة. أي أنَّها جاوزت في إهمالها حقيقة الشيء في ذاته ثمَّ لتهمل حقيقة موجدِ هذا الشيء. إنَّ ما يؤخذ على المنطق الأرسطيِّ أنَّه يظهر عاجزًا عن إدراك المعرفة التصوُّريَّة، وكذلك في إدراك المعرفة التصديقيَّة. بيانُ ذلك أنَّ المعرفة التصوُّريَّة لا تستقيم في هذا المنطق، وهذا عائدٌ إلى أنَّ تعريف أيَّة ماهيَّةٍ يوجبُ استخدام الأجناس والفصول، ولأنَّ الأجناسَ العاليةَ بسيطةٌ، والحدَّ غير ممكن حيالها، فسيكون متعذِّرًا تعريفُ أيٍّ من الأجناس والأنواع التالية عليها أو الواقعة تحت سمائها.

 

سوف يؤدّي هذا الخلل في الاسم الأنطولوجيِّ للميتافيزيقا إلى صدعٍ في المبدأ المؤسِّس للموجود الأوَّل كظاهرةٍ بَدئيَّةٍ، الأمر الذي سيكشف عن مُشكلٍ بديهيٍّ سَهَا عنه القول الفلسفيُّ الإغريقيُّ فضلًا عن لواحقه المستحدثة: فإذا كانت مهمَّة الميتافيزيقا البحث في الوجود بما هو موجودٌ، فإنَّ مبتدأها ومنتهاها تمثَّل بحصر معرفتها بالموجود في ظهوره العيانيِّ وعدم الاكتراث بما هو عليه في خفائه وكُمُونه. فإذا كانت الفينومينولوجيا تدلُّ على الشيء كما يتبدَّى في العلن، فإنَّ هذا «المتبدِّي»(النومين) ما كان له أن يتبدَّى ويظهر لولا اتّصاله بمصدره الأوَّل، الذي هو علَّته الفاعلة وماهيَّته وحقيقته الواقعيَّة.

 

وفي مجمل القول، ثمَّة من الاختلالات التكوينيَّة في بنية التفكير الفينومينولوجيِّ المحض ما يفضي إلى صرفها عن أن تؤدّي وظيفتَها المنهجيَّةَ في استقراء الوجود المتعيِّن، على نحوٍ يقيمها في مقام العلم التامِّ القوام. في رأس قائمة الاختلالات هو الانفصال عن المبدأ المؤسِّس لكلِّ ظاهرة، ووقوفُها على التوصيف البحت لعلاماتها الظاهريَّة ولدلالاتها الرمزيَّة على أبعد تقدير، وبالتالي افتقارُها إلى نظريَّةٍ كاملةٍ وراسخةٍ في التبرير والتسويغ، وبقاءُ مفاهيمها الجوهريَّة والأساسيَّة عامَّة وغامضة.

 

مستخلص

 

نحن إذًا، تلقاء ضربين من علم ظواهر الوجود:

 

الأوَّل، ذاك الذي أخلد إلى أرض المرئيَّات، ولم يرَ إليها إلَّا تبعًا لأحكام المقولات العشر ومبادئها الفيزيائيَّة. بسببٍ من ذلك، فإنَّ النظام الفينومينولوجيَّ الحديث سيعود القهقرَى ليستعين بالمبدأ المؤسِّس للعقلانيَّة الإغريقيَّة المثلومة… أي إلى المبدأ الذي يقيِّد المعرفة الفلسفيَّة بـمقولة «الموجود بما هو موجود»، ثمَّ ينظر إلى هذه «المسلَّمة» كأيقونة مقدَّسة لا مِراء فيها. نتيجة هذا الاعتقاد كانت الجهرَ باستحالة معرفة الهوّيَّة الحقيقيَّة للشيء في ذاته. ثمَّ لتؤولَ النتائجُ المترتِّبةُ على هذه الرؤية إلى نشوء ميتافيزيقا معتلَّةِ الأركان، لا تفقه من الموجودات سوى ظاهرها المكتظِّ بالَّلايقين.

 

الثاني: ذاك الذي جاوز القشرة الفيزيائيَّة للوجود الظاهريِّ، وأقام تبصُّراتِه على توحيد الوجود وتعامله مع كثَرَاته كنفسٍ واحدة. فعلى أساس هذا العلم لن نرى من شِقاقٍ بين ما يتبدَّى للعيان، وما يختزنه المتبدّي من حقائقَ مستترة. وعليه، يستوي القول أنَّ «الشيء في ذاته» هو في كُمُونهِ عينُ ظهورهِ في العلن. فإنَّما هو في حقيقته ليس تجريدًا ذهنيًّا يمكن النظر إليه بمعزل عمَّا يبدو فيه، فهو في خفائه عين البدَاء والظهور.

 

ومن أجل أن نتصوَّر نظريَّة معرفة لمثل هذه الصيرورة نقترح ما نسمّيه بـ «وحدة الأفق». تلك التي تتكامل فيها مراتب التعرُّف على الموجودات بغية التوصُّل إلى إدراك ما يتخفَّى منها. و«وحدة الأفق» كنظريَّةِ معرفةٍ هي ما تأخذ به فينومينولوجيا الغيب كمنهجِ تعرُّفٍ على ماهيَّة الشيء وهوّيَّته الظاهرة. وهو منهجٌ يتأسَّس على مسلَّمتين متلازمتين لا تقبلان الانفصال والتناقض: مسلَّمة العقل ومسلَّمة الوحي. عن طريق الوصل الواعي بين هاتين المسلَّمتين تنبسط وحدة الأفق لوعيِ فعلِ الغيب على ضربين متناغمين من المعرفة الشهوديَّة: أ- شهود الحقيقة الدنيا بوساطة العقل في امتداداته إلى ما وراء المظاهر. ب- شهود الحقيقة العليا بالقلب المؤيَّد بمعارف الوحي.

 

استكمالًا لهذه السيرورة التكامليَّة تأخذ فينومينولوجيا الغيب دُرْبتها الفريدة في معرفة الوجود والموجود. فالشهودُ الحضوريُّ لذوات الأشياء يسري عبر سلسلة طوليَّة مترابطة ومتداخلة تنتهي بشهود الفؤاد كإعرابٍ عن الوعي الفائق بظواهر الغيب. فإذا كان العقل يشهد على الأشياء كظهورٍ حقيقيٍّ وفقًا لمبدأ الاستدلال والبرهان والتجربة، كذلك يشهد الوحي على ما فوق ذلك. وبالشهود العقليِّ المتَّحد بالشهود الفؤاديِّ، تُدرَكُ حقائقُ الأشياء بما هي حقائقٌ واقعيَّةٌ عينيَّة. فما يوجد ويُرى في القضايا الوحيانيَّة، له بعدٌ إحساسيٌّ واقعيٌّ كما في رؤية الأنبياء (ما كذب الفؤاد ما رأى)، وكذلك في ما يراه الأولياء والعرفاء من كرامات بوصفها واقعًا مشهودًا. ومع أنَّ الكشف له حجِّيَّته الذاتيَّة للمكشوف له، إلَّا أنَّه لا يمكن نقله للآخرين إلَّا من خلال ترجمة الآثار الناجمة عنه.

 

ولعلَّ أهمَّ الفضائل التي يقدِّمها الكشف في معرض الاستدلال والبرهان، هو تقديم تصوُّر صائب للعقل حيال القضايا التي تقع فوق مشاغله الحسّيَّة وقدرته الإستدلاليَّة، ذلك بأنَّ المزيَّة الجوهريَّة للعقل المستنير بإضاءات الكشف والشهود، هي وضوح القضيَّة ومعرفة ماهيَّتها. فالتصوُّر الصحيح لأيِّ قضيَّة يفوق التصديق بها أهميَّة، باعتبار أنَّ الاستدلال على مسألة ما يفترض تصوُّرها بشكلٍ صائب، أي كما هي موجودة في الواقع. (يزدان بناه – فلسفة الفلسفة – ص 365). ولأنَّ ذوات الأسباب لا تُعرف إلَّا بأسبابها» كما تبيّن الحكمة المتعالية، فذاك يعني أنَّ العلم بالمسبِّب إذا حصل عن طريق السبب فقد لامس طورًا علميًّا فائقًا. ما يعني أيضًا أنَّ الوصول إلى ذوات الأسباب هو أمرٌ متعلِّقٌ بالكشف والشهود ومنحصرٌ فيه. وعلى هذا الأساس، فإنَّ شهود حقيقة الموجود هو مرحلةٌ عقليَّةٌ عليا لتحقِّق اليقين، ومن ثمَّ فإنَّ الحكمة الحاصلة عن طريق الكشف والشهود تكون أعلى من الحكمة العقليَّة، وتكون المعرفةُ الشهوديَّةُ للوجود حكمةً حقَّة.

 

غايةُ المعرفةِ إذن، كشفُ المكمون الذي هو مبدأ الموجودات. وهذا ما يتأتَّى ثَمَرُه بمجاهدات العقل والكشف. أمَّا العلم بسرِّه فهو أمرٌ ممكنٌ فقط عن طريق العلم الحضوريِّ الفعليِّ والمباشر. في حين أنَّ التفكُّر الحقيقيَّ بهذه المنزلة المعرفيَّة، هو بالسير الجوهريِّ من الظاهر إلى الباطن ومن الكثرة إلى الوحدة، والسير من الظاهر إلى الباطن يشمل السير من ظاهر الكلام إلى باطنه، ومن ظواهر الأمور إلى ماهيَّاتها، ومن الماهيَّات إلى الوجود.. وبالتالي السير من الأسماء إلى الذات، وانتهاءً بالسير من الحقِّ إلى الخلق.

 

لم يكن الكلام على «فينومينولوجيا الغيب» سوى دفعٍ باتجاه «تفلسُفٍ» مُفارقٍ ينظر إلى هيئة البَدء الأوَّل بوصف كونه ظهورًا واقعيًّا قابلًا للفهم. الغايةُ من ذلك، التمهيدُ لأفقٍ ميتا - فينومينولوجيٍّ يستجلي المخبوء في علم الوجود، ويستظهرُ ما يختزنه الشيء في ذاته من قابليَّاتٍ مؤسِّسةٍ لفتوحاتٍ معرفيَّةٍ متجدِّدةٍ في عالم الميتافيزيقا…

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد