في ما يأتي نعرض إلى ماهيَّة كلِّ مرتبة وطبيعتها:
أوَّلًا: السؤال الفاني: وهو متعلِّق بماهيَّة وصِفات الشيء ونشاطه كظاهرة في زمان ومكان محدَّدين. ولذلك فالسؤال عن الموجود الفاني هو سؤال فانٍ ولا معنى له من حيث هو هو. وأمَّا معناه فمنحصِرٌ بكونه يحيا بأعراضه ويزول بزوالها. والطبيعة الفانية لهذا النوع من السؤال تعود إلى ارتباطه بدنيا الحواسِّ وتعلُّقه بالحاجات المباشرة للموجودات. فإذا سُدَّت لموجود ما حاجتُه كفَّ عن المطالبة؛ وما إن يكفّ عن الطلب حتى ينقضي أمرُه ويتبدَّد معناه.
لأجل ذلك، كان من أبرز سمات السؤال الفاني وقوعُ صاحبه في الحَيْرة. وحيرتُه هنا ذات طبيعة سالبة، وهي حَيْرة الكثرة من الناس. معها يكون الحائر متطيِّرًا ممَّا يكِّدره من أمور دنياه، فيتشابه عليه خيرُها وشرُّها، عاليها وسافِلُها، ولا يجد لأمره حيالها من سبيل. فهو أشبه بحاوية ضخمة من الظنون. سِمَتُه اللَّايقين وفقدان الثِّقة بالذَّات وبالغير. لا يواجه الحائر في السؤال الفاني أمرًا إلَّا أخَذَه العَجَب، فالفراغ العجيب علمٌ ناقصٌ، ولأنَّه كذلك فلن يسفر إلَّا عن حيرة مشوبة بالجهل. فإذا كان من أفعال العقل أنَّه يجمع ما تفرَّق في عالم الممكنات والمحسوسات، فالحائر في الفراغ يفرِّق ما كان شملُه مجموعًا. لهذا، أمكن لنا القول أنَّ الحائر ها هنا يدور حوالى نفسه، ولا يملك أن يغادر دوَّامته قطّ. فمن طبائع الحيرة النازلة جمعها بين نقيضين: يقين ناقص وشكّ ناقص، والعائشُ فيها لا يقدر أن يُجاوِز نقصانه ويمضي إلى انشراح الصدر.
ثانيًا: السؤال المتردِّد بين الفناء والبقاء: صاحب هذا السؤال يسأل عن معنى الأبديَّة إلَّا أنَّه لا يعيشها. ولأنه يُعرِضُ عنها بالنظر والعمل داهَمَه النسيان. لذلك نجده يميل في أسئلته إلى الشيء الفاني والفكرة الفانية بحكم انئخاذه بسحر الموجودات، وتعلُّقه بجاذبيَّة الحسّ. وبسببٍ من منزلته التوسُّطيَّة بين الفاني واللَّافاني ينحكم صاحب هذا السؤال بالتقلُّب والحَيْرة، وغالبًا ما يشعر بأنَّ يومَهُ كأمسِهِ وأمسَهُ كَغَدِه. ثمَّ تتساوى أيامه في التكرار والتواتر ولا يقدر على أن يأتي بما يساعده على الانتقال إلى ضفَّة الاستقرار وسداد الرأي. مع ذلك، فإنَّ حيرة الحائر بين الفناء والبقاء هي ذات طبيعة مختلفة عمَّن سبقه. ويترتَّب على هذا الاختلاف تمايزٌ عن سواه في استقراء الوجود. فالحيرة الوسطى، على الرغم من تطلُّعها إلى الباقي والمطلق، تبقى تدفع بصاحبها إلى الفاني والنسبيّ. مع ذلك، يستطيع الحائر فيها أن يجد له مُنفسَحًا للتفكير بالسؤال المؤسِّس بما لديه من ذكاء وفطنة وسِعَةِ حيلة.
ثالثًا: السؤال الباقي: وهو الذي لا يفنى ما دام يغتذي من أرض المعنى، أي من الوجود الأصيل حيث لا عدم ولا فراغ، بل امتلاء محض. ولو كان لنا أن نجعل له مطرحًا يليق به لأقمناه مقامًا “فوق ميتافيزيقيّ”. وهذا المقام اللَّائق هو الأكثر قابليَّة لاستيلاد السؤال المؤسِّس للمعنى. ذلك بأنَّه مقام الجمع بين الأضداد، والوصل بين الوحدة والكثرة، ناهيك برعايته للتكامل والانسجام بين الغيب والواقع المشهود. بهذه المنزلة السامية يكون السؤال حيًّا، إلَّا أنَّه سؤال من ذلك النوع الذي لا ينتظر الإجابة على نحو ما يبديه الإنسان من استفهامات في عالم الحسّ. فالإجابة ها هنا استجابة وإقبال، ذلك بأنَّها متضمَّنة فيه ولو لم تظهر نتائجها في الَّلحظة التي تلي السؤال. والإمكان هو تبيُّن ماهيَّة السؤال الباقي في ما ذهب إليه التأويل العرفانيُّ للزمن. فقد وصف عُرفاء الصوفيَّة أنفسهم بـ “أبناء الوقت”. وكلمة الأبناء تدلُّ على جمع العارف بين أضلاع ثلاثة: الزمان والمكان وحضور الإنسان فيهما. فمتى جاز المرء على الجمع بين الأضلاع ومعهم كان على شاكلتهم. وقتُه وقتهُم، وسمتُه سمتُهم، ومطرحُه مطرحُهم، ومآلُه مآلُهم. عندئذٍ يصير الزمن مقامًا للكائن لا يُعرَفُ إلَّا فيه، ولا يعرِفُ الوجود إلَّا من محرابه. والذي لم يبلغه بعد لا يقدر على المعرفة التي تمكِّنه من الكشف والمشاهدة. فلو لم يكن ابنًا للوقت بهذا المعنى الخاصِّ والمتعالي، لغدا مستحيلًا بالنسبة إليه لأنه غريب عن التماسِّ ولا يملك عين البصيرة. إذن، السؤال في المقام “فوق الميتافيزيقيِّ” منفتحٌ على اللَّامتناهي ومقيَّدٌ فيه في الآن عينه. فالسؤال عن الأزل، وبالتالي عن الله، هو سؤال لا ينتسب إلى عالم المفاهيم الذي نشأ ونما في محراب الماهيَّات الفانية. أمَّا السؤال عن الباقي والأزليِّ فهو ما لا يمكن أن يُحمل على مفهوم، لأنَّ المفهوم المحمول على شيء ما والمنتزع منه، هو قول محدَّد ومحدود بماهيَّة ذاك الشيء. ولو شاء السائل أن يجيب عن ماهيَّة الأزليِّ بالوصف فلن يسعفه الَّلفظ. فالأزليُّ يتأبّى على كلِّ لفظ، ولو تُلُفِّظ عنه فليس الَّلفظ بصائب حتى لو كان صادقًا في الَّلحظة التي يصدر فيها على لسان اللَّافظ.
في أرضِ المعنى المسكونة بدنيا المفاهيم ومعاثرها، يظلُّ الواحدُ منَّا يسألُ حتى يتبدَّد السؤال.. وحين يصلُ إلى تلك المنطقةِ من الفراغِ العجيبِ يجدُ نفسه على الحافَّة: إمَّا أن يتطيَّرَ ويسقطَ في لُجَّةِ العدم، وإمَّا أن يغمرَهُ الأنسُ الأتُّمُ ويعودَ الكونُ كلُّه على كَثرتهِ وكَدَرهِ حضرةً رحمانيّةً واحدة… فلو حصل الانتقال من أرض الفراغِ العجيبِ إلى أرض الحقيقة سيتهيَّأ للداخل حَالَذاك كما لو أنَّ يدًا قدسيَّة امتدَّت نحوَهُ وتلطَّفتْ عليه بالأمانِ وهدأة الصدر. ولو تنبَّه المتهيِّءُ إلى هذا “التأتِّي اللَّطفانيِّ” النَّازلِ عليه من الوجود المحضِ، لساءَلَ نفسَهُ عمَّا ينبغي له أن يردَّ الجميلَ بالجميلِ، ويبادلَ اللُّطفَ باللُّطف. هنا لا شيء أمامَكَ إلَّا التلقِّي بصبرٍ وصمت. والتأتِّي اللُّطفانيُّ بهذه الصورةِ غالبًا ما يتدفَّقُ من دون حسبانٍ على الناجين من أغلالِ الفراغِ العجيب. ولذلك، فهو تدفُّقٌ مفاجئٌ يثيرُ مشاعرَ متضادَّةً تُراوحُ بين الدهشةِ والحبورِ والتهيُّب. وعلى الرَّغمِ من الفجْأةِ التي غمرَتْهُ برهبتِها، لا يجدُ الناجي غرابةً في ما حلَّ فيه. فما تؤتيهِ اليدُ القدسيَّةُ ينبسطُ على غيرِ صورة، حينًا على هيئةِ عقلٍ هادٍ، وحينًا كأمرٍ قدسيٍّ يمدُّه بالمسرَّةِ، وأخرى على صورة روحٍ كليِّ العطاءِ ينفقُ من أجل المعنى الأسمى من غير مِنَّة.
على هذا الطريق، يوشك صاحبُ الحظِّ الذي جاوز أرضَ “الفراغ العجيب” أن يتعرَّض إلى جذبٍ معنويٍّ غيرِ عاديٍّ، هو أقرب إلى استشعارٍ خاطفٍ بلذَّةِ الامتلاءِ بالمعنى. معه يتبدَّد كلّ سؤالٍ مميتٍ، لينبعثَ من بعدهِ كلُّ تساؤلٍ حيّ. وحين يكشفُ الجاذبُ القدسيُّ عن معناهُ، لا يعودُ للسؤالِ عن سرِّ المعنى آنئذٍ مِن نفع. فلا لزومَ لإشغال الفكر باستفهاماتٍ قد تؤدّي بصاحبها إلى الاغتمام. فمن أدركَ سرَّ الاندهاشِ العجيبِ إدراكَ عيشٍ ومُعاينةٍ، لا يعبأَ إن كان قد تعقّلَ معنى السرِّ بالحجَّةِ والاستدلال. فقد وَصَلَهُ الدليلُ بالمعاينةِ لا بالخبرِ المَشوبِ بالشكّ. فإنَّ من عاشَ سرَّ معنى الموجود لا يَعُودُ يهمُّهُ التعرُّفُ على صفاتهِ وآثارِه، فقد بات يعرف ما لا يطيقُ معرفتهُ أكثرُ أهلِ النُّدرة.
حدود العقل في إدراك المعاني
لقد أجمع العرفاء على قصور العقل عن إدراك ما تنطوي عليه بواعث الموجودات من إغماض. فالعقل – بما هو عقلٌ – منشغلٌ بحدود الأشياء وماهيَّاتها؛ فأنَّى له القدرة على حدِّ معنى الله، ففي الألوهيَّة ينمحي الحدُّ، وما يمحو الحدَّ يتأبىَّ على التعيُّن حتى يجعله ممتنعًا. في هذه المنطقة القصيَّة التي يُبحث منها عن المعنى الأتمِّ ينتقل نشاط العقل إلى طور أعلى، حيث تتَّسع الرؤية وتتقلَّص الُّلغة الحاكية عن المعنى، ثم تمضي في التجريد حتى تصير حرفًا، ثمَّ تصير حرفًا وراء حرف؛ حتى تصل الحرف الأعظم. من أجل ذلك وجدنا أنَّ لفظة “بسم الله عند الأولياء هي ككلمة “كن” من الحقِّ عزَّ وجلَّ، فهي كلمة أثبتت المفعول، وضمير الباء أثبت الفاعل، وضميرها هو ضمير الإنسان الكامل، أو نقول روح الوجود”، لذا فباسم الله عند الولي العارف هي كلمة إيجاد على الحقيقة، وهذا يكشف عن علاقة خاصة يعقدها العارف بالُّلغة، فهو لم يجلس في بساط التعليم لكي يتعلَّم رسمها، أو يحصل خصائصها ومعانيها فيحفظها عن ظهر قلب كما يفعل غيره من علماء الرسوم.
فالعارف في مرحلة التكوين كان يهذِّب ملكاته باسم الله، ويتمثَّلها ويتجرَّد بتجرُّد الاسم. كان يستكن المعنى ولا ينهي مرحلة التكوين حتى يكون مظهرًا لاسم الله تعالى أي عارفًا كاملًا. ثمَّ إنَّ مقصود العرفاء في استكناه الحروف والكلمات – كما يقول العارف بالله عبد الكريم الجيلي- هو الكشف عن الحقائق الدالَّة على الحقِّ تعالى وكمالاته: “والكلام عليها (البسملة)، في منافعها وأسرارها، ولسنا بصدد شيء من ذلك في وجوه، بل كلامنا عليها من وجه معاني حقائقها فيما يليق بجناب الحقِّ سبحانه وتعالى”.
سنرى -على سبيل المثال- أنَّ السؤال عن الله هو من النوع الذي لا يُجهر به. لأنَّه ليس بعارضٍ، وهو غير منحكم إلى زمان ولا إلى مكان. ثمَّ إنَّه سؤال لا يصحُّ أن يندرج ضمن الاستفهام الفينومينولوجيِّ عن معنى الأشياء. وما ذلك إلَّا لأنَّه استفهامٌ عن اللَّامتناهي والمحيط بكلِّ شيء، لا بالسائل المحدَّد والمحدود والمحاط به. ولذا، فالسؤال عن الله هو سؤال عن الذي لا تُحاط ذاته بالفهم لأنَّه مطلق. والمطلق، بحسب تعريف علماء الُّلغة، هو ذكر الشيء باسمه حيث لا يُقرن به صفة ولا شرط ولا زمان ولا عدد ولا شيء يشبه ذلك.
المعنى الممتدُّ في فضاء الغيب هو الأصل الذي تغتذي من خزينه سائر معاني الموجودات. ومن خلال التعرُّف على البدء ومعناه، واستطلاع ماهيَّته، يغدو كلُّ تعرُّف على المعاني اللَّاحقة تعرُّفًا على البدء الأول، وتكاملًا معه ومراتب من مراتبه. فلكي ندرك معنى الشيء اللَّاحق وجب إدراك المبدأ الذي هو أصل المبادئ ومؤسّس ماهيَّات الأشياء. ومعنى الإدراك هو المجهود العقليُّ في مقام تفسير وتأويل ماهيَّة الشيء موضوع الإدراك على نحو يمكن فهمه والوصول إلى تصوُّر له الحكم عليه. وهي العمليَّة التي ترى إلى الأشياء بوصف كونها وحدة متَّصلة وغير منفصلة بعضها عن بعض.
ولئن كان للمعنى أحوال حيث يُعرف الشيء بمظاهره، فإنَّ له أحوالًا مخبوءة لا يُعرف إلَّا من طريق الاستقراء الباطنيّ. ولهذا الأخير دربة ليس يستطيعها غير الأقلّين، أولئك الذين اتَّخذوا مشقَّة الدخول إلى عتمة المعنى للتعرُّف على ما ينطوي عليه الشيء. في هذه المنطقة، تمكث نقطة جذبٍ تستحوذ على المشاعر كما تستحوذ على الفكر لتدفع الرَّائي بشغف عجيب لإدراك الغاية المقصودة مهما تعدَّدت مراتب التعبير عن نفسها. أمَّا معنى معنى الشيء فإنَّه يتَّخذ مكانة سرَّانيَّة (من السرّ). مكانة واقعة في منطقة قصيَّة من الوجدان؛ وهي ذات قابليَّة أصيلة لوعي ما هو مستتر وخفيٌّ من ماهيَّة الشيء الجاذب للمعرفة. جمعٌ من فلاسفة الدين طاب لهم نعت تلك الحالة المعنويَّة بالحضور القدسيِّ العصيِّ على الوصف، أي ذاك الدفق الفجائيَّ غير المتوقَّع والذي يأخذ غالبًا ما يأخذ صفة الرهبة، ويستحيل الإمساك بناصيته والإحاطة به.
والقدسيُّ هو الأمر الروحانيُّ الذي يمضي إلى استشعار المتعالي وعيشه والتعامل مع فروضاته بوصفه أمرًا حقيقيًّا وحقانيًّا في الَّلحظة عينها. في الحكاية الميتافيزيقيَّة لمعناه أنَّه المحلُّ الممتلئ بالمعنى الأخلاقيّ. لكنَّ القدسيَّ، أو ما يمكن وصفه بالأمر ذي الجلالة الفائقة، لا ينأى من مكابدات العقل في طوره الامتداديّ. ولأنَّه كذلك، فهو يكتسب معناه ضمن سيريَّة جوهريَّة يتضافر فيه ظاهر الشيء وخفاؤه ليغدو على نشأة واحدة ومعنى واحد. فالعقل في طوره الامتداديِّ يشكِّل حقلًا مشتركًا تأتلف فيه المفارقات والمتضادَّات، بل وترتفع التناقضات التي شكَّلت أساس التفلسُف الكلاسيكيِّ في رؤية العالم. بعض علماء الأنتروبولوجيا ينفون أن يكون المقدَّس مجرَّد طور من أطوار الوعي البشريِّ، بل يرونه عنصرًا مكوِّنًا لبنية هذا الوعي، وأنَّ وجود العالم هو حصيلة لتجلِّي المقدَّس وظهوره.
وليس من ريب هذا التأصيل الجوهريِّ لمعنى المقدَّس بمعناه المتحقِّق في الحياة البشريَّة، يفضي إلى حقيقة أنَّ الإنسان – بوصفه إنسانًا – هو كائنٌ ميتافيزيقيٌّ لا يكتسب معناه الأنطولوجيَّ إلَّا بما هو كذلك. أي أنَّ تحقُّق معنى الكائن الآدميِّ ليس أمرًا موقوفًا على الكسب الإراديِّ التدريجيِّ لمكانته في الوجود فحسب، وإنَّما أساسًا على كون معناه كامنًا في أصل خلقته. ولدى وعي هذه المنطقة الَّلطيفة تنفتح أمام مرآة دروب التجلِّي لبلوغ المعنى المستتر في أعماق ذاته. وإذا كان الإنسان لا يستطيع العيش إلَّا في عالم ذي معنى، فالإنسان الروحانيُّ، هو الأكثر توقًا إلى العيش في محاريب القدسيِّ، وما ذاك إلَّا لأنَّ هذا العالم الذي يستمدُّ جاذبيَّته من الغيب، هو عالم حقيقيٌّ وواقعيٌّ لدى من يعيشه ويختبره فيمنحه الأمل بالآتي، وبالسعادة التي لم تأتِه بعد. ولأنَّه لا يجد نفسه إلَّا في محلٍّ ممتلئ بجلال المقدَّس وجماله، نراه يفتتح بهذه الإقامة “البرزخيَّة” سبيلًا إلى السكن في الألوهيَّة الفائضة، ثمَّ ليرجو الخاتمة في المكان الأعلى طهرًا وتقدُّسًا، مثلما كان من قبل كائنًا طهرانيًّا في علم الله وحضرته المقدَّسة.
المقدَّس في معناه المفارق
أنَّى كانت مناحي التعرُّف على معنى الكائن في مقام المقدَّس، وعلى معنى المقدَّس، بما هو مقدَّس، يبقى التساؤل ساريًا حول الكيفيَّة التي يمكن عن طريقها بلوغ معنى القدسيِّ وماهيَّته. ففي حضرة القدسيِّ، يُستشعرُ سرُّ المعنى بالَّلمح الباطنيِّ. وهذا السرُّ لو أُخِذ بمعناه الطبيعيِّ من دون سواه يعني الأمر المكتوم أو الخفيّ، بمعنى الشيء الغريب، وغير المفهوم، وغير المفسَّر. ومن هذا القبيل، “ليس هذا السرّ إلَّا خاطرة قَبْسيَّة تُستمدُّ من الدائرة الطبيعيَّة لإيضاح المعنى الواقعيِّ عندنا، ولكنَّها عاجزة عن أن تفصح عنه إفصاحًا تامًّا. إن ما هو سرِّيٌّ – حسب معناه الدينيِّ – إنما هو “ذو الغيريَّة التامَّة” حسب اللَّاهوتيِّ الألمانيِّ رودولف أوتو. ذاك الذي يوجد بتمامه خارج دائرة المعهود، وهو الذي يقع نتيجة لذلك، بالضَّبط، خلف حدود “المألوف”، ويناقضه، مالئًا الذِّهن دهشةً وذهولًا.
ولقد دلّت الاختبارات الدينيَّة على أنَّ فهم القدسيِّ وإدراك أسراره ومعانيه يمكث في المنطقة العليا من الإيمان. فالإيمان الأعلى كما يقرِّر أوتو هو الذي يوفِّر لصاحبه القدرة على التجاوز والتعالي بقدر ما يمكِّنه من الاستيعاب والإحاطة. ومن يبلغ تلك الدرجة يستطيع أن يعيش المجاز والحقيقة بالمقدار نفسه، وأن يعيش الغيب والشهود كما لو كان معهما في عالم واحد. مثل هذا الصنف من الإيمان لا يمكن تحديد معناه على النحو الذي تتحدَّد فيه معاني الموجودات طبقًا لقواعد الاستدلال المحكومة بالمفاهيم. فهو ليس مجرَّد ظاهرة تُماثِل الظاهرات الطبيعيَّة الأخرى، بل إنَّه الظاهرة المركزيَّة في حياة الإنسان الشخصيَّة الجليَّة والخفيَّة في الوقت نفسه. فالإيمان هو إمكانيَّة جوهريَّة للإنسان، ولذلك فوجوده ضروريٌّ وكلِّيّْ، وهو ممكن وواقعيٌّ وضروريٌّ أيضًا في كلِّ زمان ومكان. وبالتالي فهو خلاف التوهُّم الذي أنتجته صرامة المنهج العلميِّ، وقيودات المنطق الصوريِّ، وحسابات العقل التقنيِّ الذي وسم تاريخ الحضارة الغربيَّة منذ اليونان إلى حقبة ما بعد الحداثة.
المعنى تحدِّده القيمة التي يختزنها الشيء فيراه الرَّائي فيُظهر معناه. فما كان ذا قيمة، كان له معناه. وبحسب درجة سموِّ القيمة أو دُنوِّها تتعيَّن درجة سموِّ المعنى أو دُنُوِّه. وعليه، فما لا قيمة له لا معنى له ولا يُعوَّل عليه. والقيمة لا تتأتَّى ممَّا يتكرَّر على الصورة نفسها. حتى التجلِّي المتكرِّر في الصورة الواحدة يفقد جاذبيَّته لأنَّ قيمته كانت موجودة في البدء، وتكرارها ضربٌ من زيادة على الصورة. وكلُّ زيادة على ما هو أصيل وجوهريٍّ لا قيمة له. وعلى ما يقول ابن عربي، فإنَّ التجلِّيات المطابقة لأمثلتها القائمة بالنفس قبل ذلك، لا يُعوَّل عليها. وكلُّ مشهد لا يريك الكثرة في العين الواحدة لا يُعوَّل عليه. حتى قيمة الحكمة إن لم يكن لها حكمٌ وإرادة فلا معنى لها.
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع
أمسية للشّاعرة فاطمة المسكين بعنوان: (تأمّلات في مفهوم الجمال بين الشّعر والفلسفةِ)
العظات والعبر في نملة سليمان
الكوّاي تدشّن إصدارها القصصيّ السّادس (عملاق في منزلنا)
اكتشاف أقدم أبجديّة معروفة في مدينة سوريّة قديمة
محاضرة للمهندس العلي حول الأنماط الحياتيّة من التّراث الدّينيّ
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (2)
الأمّة المستخلفة
المعنى في دُنُوِّهِ وتعاليه (1)