
توافرت طائفة من الألفاظ الدقيقة عند إطلاقها في القرآن، وتتميز هذه الدقة بكون اللفظ يدل على نفس الصوت، والصوت يتجلى فيه ذات اللفظ، بحيث يستخرج الصوت من الكلمة، وتؤخذ الكلمة منه، وهذا من باب مصاقبة الألفاظ للمعاني بما يشكل أصواتها، فتكون أصوات الحروف على سمت الأحداث التي يراد التعبير عنها.
يقول ابن جني (ت : 392 هـ) «فأما مقابلة الألفاظ بما يشكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج متلئب عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر عنها، فيعدلونها بها، ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره، وأضعاف ما نستشعره، ومن ذلك قولهم: "خضم وقضم، فالخضم لأكل الرطب... والقضم لأكل اليابس".» (1).
ونضع فيما يأتي أمثلة لهذا الملحظ في بعض ألفاظ القرآن العظيم:
1- مادة «خر» توحي في القرآن بدلالتها الصوتية بأن هذا اللفظ جاء متلبسًا بالصوت على سمت الحدث في كل من قوله تعالى:
أ- {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الفاتحة : 31].
ب- {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل : 26].
ج- {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} [سبأ : 14].
د- {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص : 24].
فإن هذا اللفظ وقد جاء بصيغة واحدة في عدة استعمالات، يدل بمجملة على السقوط والهوي، وهذا السقوط، وذلك الهوي: مصحوبان بصوت ما، وهذا الصوت هو الخرير، والخرير هو صوت الماء، أو صوت الريح، أو صوتهما معًا، فالحدث على هذا مستل من جنس الصوت، ومن هنا يستشعر الراغب (ت : 502 هـ) دلالة اللفظ الصوتية فيقول: «فمعنى خرّ سقط سقوطًا يسمع منه خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو. وقوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّدًا} [مريم : 58] فاستعمال الخرّ تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط، وحصول الصوت منهم بالتسبيح، وقوله من بعده {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة : 15]. فتنبيه أن ذلك الخرير كان تسبيحًا بحمد اللّه لا بشيء آخر» (2).
ووجه الدلالة فيما يبدو أن الخرّ يأتي بمعنى السقوط من شاهق، وأن الخرير إنما يستعمل لصوت الماء أو الريح أو الصدى محاكيًا لهذا اللفظ في ترديده، فلم يرد مجرد السقوط من «خر» وإنما أراد الصوت مضافا إليه الوقوع والوجبة في إحداث هذا الصوت، وكانت هذه الإضافة الدلالية صوتية سواء أكانت في صوت الماء، أم بالوقوع والسقوط، أم بالتسبيح. واللّه أعلم.
2- مادة «صرّ» في كلمة «صر» من قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران : 117].
أو كلمة «صرصر» في كل من قوله تعالى:
أ- {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة : 6].
ب- {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر : 19].
هذه المادة في هذه الصيغ الثلاث: مرفوعة، مجرورة، منصوبة، وردت في القرآن وأنت تلمس فيها اصطكاك الأسنان، وترديد اللسان فالصاد في وقعها الصارخ، والراء المضعّفة، والتكرار للمادة في صرصر، قد أضفى صيغة الشدة، وجسّد صورة الرهبة، فلا الدفء بمستنزل، ولا الوقاية متيسرة، وذلك ما يهد كيان الإنسان عند التماسه الملجأ فلا يجده، أو النجاة فلا يصل شاطئها، أو الوقاية من البرد القارس فلا يهتبلها.
في لفظ «الصر» ذائقة الشتاء، ونازلة الثلوج، وأصوات الرياح العاتية، مادة الصر إذن: كما عبر عنها الراغب (ت : 502 هـ) «ترجع إلى الشدة لما في البرودة من التعقد» (3).
قال الزمخشري (ت : 538 هـ): «الصر الريح الباردة نحو الصرصر، وفيه أوجه:
أحدها: أن الصر في صفة الريح بمعنى الباردة، فوصف بها القرة بمعنى فيها قرة صر، كما تقول: برد بارد على المبالغة.
الثاني: أن يكون الصر مصدرًا في الأصل بمعنى البرد فيجيء به على أصله.
الثالث: أن يكون شبه ما كانوا ينفقون بالزرع الذي جسه البرد فذهب حطامًا (4).
ولكننا نضع أيدينا على الحس الصوتي في اللغة، فيعطينا دلالة خاصة، مواكبة لسياق الحدث في هذا الصوت، فريح صر وصرصر شديدة البرودة، وقيل: شديدة الصوت، وصر وصرصر: صوت الصرير.
قال ابن الأنباري في قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران : 117]. فيها أقوال: أحدها: فيها صر أي برد، والثاني فيها تصويت وحركة.
والصرة أشد الصياح تكون في الطائر والإنسان. وصر صماخه صريرًا: صوّت من العطش، وصرصر الطائر: صوّت.
وفي حديث جعفر بن محمد الصادق عليه السلام والصر عصفور أو طائر في قده، أصفر اللون سمي بصوته، يقال صر العصفور يصرّ إذا صاح وصر الجندب يصر صريرًا، وصر الباب يصر، وكل صوت شبه ذلك فهو صرير إذا امتدّ، فإذا كان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضوعف كقوله: صرصر الأخطب صرصرة، كأنهم قدروا في صوت الجندب المد، وفي صوت الأخطب الترجيع فحكوه على ذلك (5).
فالصوت هنا ملازم لــ (صر) و(صرصر) تارة في الشدة، وأخرى في صوت الريح، ومثلها في أشد الصياح، وتارة في التصويت من العطش، وسواها في تصويت الطائر، وأهمها (الصر) سمي بصوته، ويليه العصفور إذا صاح، ومن ثم صرير الباب، وصر الجندب، وكل صوت يشبه ذلك في التخفيف أو الترجيع.
و«صر» في الآيات ليست بمعزل عن هذه المصاديق في الشدة والصوت والتصويت، وتسمية الشيء باسم صوته.
والذكر الحكيم حافل بالألفاظ دالة على الأصوات، جريًا على سنن العرب في تسمية اللفظ باسم صوته. واللّه تعالى أعلم.
______________________
(1) ابن جني ، الخصائص : 1/ 65.
(2) الراغب ، المفردات : 144.
(3) الراغب ، المفردات : 279.
(4) الزمخشري ، الكشاف : 1/ 457.
(5) ابن منظور ، لسان العرب : مادة : صرر.
أقسام العلّة
الشيخ محمد جواد مغنية
البحث التاريخي
السيد جعفر مرتضى
معنى (نضد) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
الكلمات في القرآن الكريم
الشيخ جعفر السبحاني
الصورة والفاعلية التواصلية
أثير السادة
لمحات من عالم البرزخ
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
حياتنـا كما يرسمها الدين
السيد علي عباس الموسوي
اتجاهات التفسير في المكي والمدني
الشيخ محمد علي التسخيري
الألفاظ الدالة على الأصوات في القرآن الكريم
الدكتور محمد حسين علي الصغير
كيف تنمو دوافع الخير والكمال في أبنائنا؟
السيد عباس نور الدين
السيّدة المعصومة: ملتقى الجمال والجلال
حسين حسن آل جامع
على غالق
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر