قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الدكتور محمد حسين علي الصغير
عن الكاتب :
عالم عراقيّ وشاعر وأديب، ولد في مدينة النجف الأشرف عام 1940 م، حوزويّ وأكاديميّ، حصل على الدكتوراه في الآداب بدرجة الامتياز عام 1979 م، وعلى درجة الأستاذية عام 1988 م، وعلى مرتبة الأستاذ المتمرس عام 1993 م، ومرتبة الأستاذ المتمرس الأول عام 2001 م. له العديد من المؤلفات منها: موسوعة الدراسات القرآنية، موسوعة أهل البيت الحضارية، ديوان أهل البيت عليهم السلام، التفسير المنهجي للقرآن العظيم. توفي الله في 9 يناير عام 2023 بعد صراع طويل مع المرض.

الدلالة الصوتية في القرآن الكريم (2)

الصيغة الصوتية الواحدة

 

وظاهرة أخرى جديرة بالعناية والتلبث، هي تسمية الكائن الواحد، والأمر المرتقب المنظور، بأسماء متعددة ذات صيغة واحدة، بنسق صوتي متجانس، للدلالة بمجموعة مقاطعة على مضمونه، وبصوتيته على كنه معناه، ومن ذلك تسمية القيامة في القرآن بأسماء متقاربة الصدى، في إطار الفاعل المتمكن، والقائم الذي لا يجحد.

 

هذه الصيغة الفريدة تهزك من الأعماق، ويبعثك صوتها من الجذور، لتطمئن يقيناً إلى يوم لا مناص عنه، ولا خلاص منه، فهو واقع يقرعك بقوارعه، وحادث يثيرك برواجفه.. الصدى الصوتي، والوزن المتراص، والسكت على هائه أو تائه القصيرة تعبير عما ورائه من شؤون وعوالم وعظات وعبر ومتغيرات في:

 

الواقعة | القارعة | الآزفة | الراجفة | الرادفة | الغاشية، وكل معطيك المعنى المناسب للصوت، والدلالة المنتزعة من اللفظ، وتصل مع الجميع إلى حقيقة نازلة واحدة.

 

1 ـ الواقعة، قال تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ﴾ (1) . وقال تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ 34. قال الخليل: وقع الشيء يقع وقوعاً، أي: هوياً. والواقعة النازلة الشديدة من صروف الدهر (2). وقال الراغب (ت : 502 هـ) الوقوع ثبوت الشيء وسقوطه، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه، وأكثر ما جاء في القرآن من لفظ وقع: جاء في العذاب والشدائد (3).

 

وقال الطبرسي (ت : 548 هـ) في تفسيره للواقعة: "والواقعة اسم القيامة كالآزفة وغيرها، والمعنى إذا حدثت الحادثة، وهي الصّيحة عند النفخة الأخيرة لقيام الساعة. وقيل سميت بها لكثرة ما يقع فيها من الشدة، أو لشدة وقعها" (4). وقال ابن منظور (ت : 711 هـ) الواقعة: الداهية، والواقعة النازلة من صروف الدهر، والواقعة اسم من أسماء يوم القيامة (5).

 

وباستقراء هذه الأقوال، ومقارنة بعضها ببعض، تتجلى الدلالة الصوتية، فالوقوع هو الهوي، وسقوط الشيء من الأعلى، والواقعة هي النازلة الشديد، والواقعة هي الداهية، وهي الحادثة، وهي الصيحة، وهي اسم من أسماء يوم القيامة، وأكثر ما جاء في القرآن من هذه الصيغة جاء في الشدة والعذاب، وصوت اللفظ يوحي بهذا المعنى، وإطلاقه بزنة الفاعل، وإسناده بصيغة الماضي، يدلان على وقوعه في شدته وهدته، وصيحته وداهيته.

 

2 ـ القارعة، قال تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ (6). وقال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ﴾ (7). قال الخليل (ت : 175 هـ): والقارعة: القيامة. والقارعة: الشدة. وفلان أمن قوارع الدهر: أي شدائده. وقوارع القرآن: نحو آية الكرسي، يقال: من قرأها لم تصبيه قارعة. وكل شيء ضربته فقد قرعته. قال أبو ذؤيب الهذلي (8). (حتى كأني للحوادث مروة *** بصفا المشرق كل يوم تقرع)...

 

قال الطبرسي: وسميت القارعة، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلى أن يصير المؤمنون إلى الأمن (9). والقارعة اسم من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بالفزع، وتقرع أعداء الله بالعذاب (10). وإنما حسن أن توضع القارعة موضع الكناية لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة (11).

 

وبمقارنة هذه المعاني، نجدها متقاربة الدلالة، فالقارعة الشدة، وقوارع الدهر شدائده، وكل شيء ضربته فقد قرعته، والقارعة تقرع القلوب بالفزع، وقلوب العباد بالمخافة، وأعداء الله بالعذاب، وهي في موضع كناية للتعبير عن القيامة، من أجل التذكير بصفة القرع، وكلها مفردات إيحائية تؤذن بالقرع في الأذن، وتفزع القلوب بالشدة، تتوالى خلالها المترادفات والمشتركات، لتنتقل بك إلى عالم الواقعة، وهي مجاورة لها في الشدة والهول والصدى والإيقاع.

 

3 ـ الآزفة، قال تعالى: ﴿أَزِفَتْ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ (12). وقال تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ (13). قال الراغب: معناه: أي دنت القيامة... فعبر عنها بلفظ الماضي لقربها وضيق وقتها (14).

 

وقال الطبرسي: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ...﴾ (15). أي الدانية. وهو يوم القيامة، لأن كل ما هو آت دان قريب (16). قال الزمخشري: والآزفة، القيامة لأزوفها (17). وفي اللغة: الآزفة القيامة، وإن استبعد الناس مداها (18). والآزفة: الدانية من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته (19).

 

ورقة الآزفة في لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر، وصفير الزاي من الأسنان، وانحدار الفاء من أسفل الشفة، والسكت على الهاء منبعثة من الأعماق، كالرقة في معناها في الدنو والاقتراب وحلول الوقت، ومع هذه الرقة في الصوت والمعنى، إلا أن المراد من هذا الصفير أزيزه، ومن هذا التأفف هديره ورجيفه، فإدناء يوم القيامة غير إدناء الحبيب، واقتراب الساعة غير اقتراب المواعيد، إنه دنو اليوم الموعود، والحالات الحرجة، والهدير النازل، إنه يوم القيامة في شدائده، فكانت الآزفة كالواقعة والقارعة.

 

4 ـ الراجفة والرادفة، قال تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ (20) وتبدأ القيامة بالراجفة، وهي النفخة الأولى (تتبعها الرادفة) وهي النفحة الثانية (21). وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك (22). قال الزمخشري (ت : 538 هـ) "الراجفة: الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال وهي النفحة الأولى، وصفت بما يحدث بحدوثها (تتبعها الرادفة) أي الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفحة الثانية، أي القيامة التي يستعجلها الكفرة، استبعاداً لها وهي رادفة لهم لاقترابها. وقيل الراجفة: الأرض والجبال من قوله: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ ...﴾ (23) والرادفة: السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها إثر ذلك" (24). وقال الطبرسي (ت : 548 هـ) الراجفة: يعني النفخة الأولى التي يموت فيها جميع الخلائق، والراجفة صيحة عظيمة فيها تردد واضطراب كالرعد إذا تمخض (تتبعها الرادفة) يعني النفخة الثانية تعقب النفخة الأولى، وهي التي يبعث معها الخلق (25).

 

وبمتابعة هذه المعاني: النفخة الأولى، النفخة الثانية، الصيحة، التردد، الاضطراب، الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال، الواقعة التي تردف الراجفة، انشقاق السماء، انتثار الكواكب، الرعد إذا تمخض، بعث الخلائق وانتشارهم . . إلخ.

 

بمتابعة أولئك جميعاً يتجلى العمق الصوتي في المراد كتجليه في الألفاظ دلالة على الرجيف والوجيف، والتزلزل والاضطراب، وتغيير الكون، وتبدل العوالم ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ (26). فتعاقبت معالم الراجفة والرادفة مع معالم الواقعة والقارعة والآزفة، وتناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعاني في الصدى والأوزان.

 

5 ـ الغاشية، قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ (27). وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد قد أتاك حديث يوم القيامة بغتة عن ابن عباس والحسن وقتادة (28). قال الراغب (ت : 502 هـ) الغاشية كناية عن القيامة وجمعها غواش (29).

 

وقال الزمخشري (ت : 538 هـ): الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها، يعني القيامة (30). وقال ابن منظور (ت : 711 هـ) الغاشية القيامة، لأنها تغشى الخلق بأفزاعها، وقيل الغاشية: النار لأنها تغشى وجوه الكفار. وقيل للقيامة غاشية: لأنها تجلل الخلق فتعمهم (31).

 

وبمقارنة هذه الأقوال، وضم بعضها إلى بعض، يبدو أن الغاشية كني بها عن القيامة لأنها تغشى الناس بأهوالها، وتعم الخلق بأفزاعها، فهي تجللهم الإحاطة من كل جانب، وقد تكون هي النار التي تغشى وجوه الكفار، وهي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها، وتلبسهم أهوالها.. إلخ.

 

إذن، ما أقرب هذا المناخ المفزع، والأفق الرهيب لمناخ الواقعة والقارعة والآزفة والراجفة والرادفة، إنه منطلق واحد، في صيغة واحدة، صدى هائل تجتمع فيه أهوالها، وصوت حافل تتساقط حوله مصاعبها، تتفرق فيه الألفاظ لتدل في كل الأحوال على هذه الحقيقة القادمة، حقيقة يوم القيامة برحلتها الطولية، في الشدائد، والنوازل، والقوارع، والوقائع، لتصور لنا عن كثب هيجانها وغليانها، وشمولها وإحاطتها: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ (32).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. القرآن الكريم : سورة الواقعة ( 56 ) ، الآية : 1 و 2 ، الصفحة : 534 .

2. القرآن الكريم : سورة الحاقة ( 69 ) ، الآية : 15 ، الصفحة : 567 .

3. الخليل ، العين : 2|176 .

4. الراغب ، المفردات : 530 .

5. الطبرسي ، مجمع البيان : 5|214 .

6. ابن منظور ، لسان العرب : 10|285 .

7. القران الكريم : سورة القارعة ( 101 ) ، الآيات : 1 - 3 ، الصفحة : 600 .

8. القران الكريم : سورة الحاقة ( 69 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 566 .

9. الخليل ، العين : 1|156 .

10. الطبرسي ، مجمع البيان : 5|342 .

11. المصدر نفسه : 5|532 .

12. المصدر نفسه : 5|343 .

13. القرآن الكريم : سورة النجم ( 53 ) ، الآية : 57 و 58 ، الصفحة : 528 .

14. القرآن الكريم : سورة غافر ( 40 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 469 .

15. الراغب ، المفردات : 17 .

16. القراآن الكريم : سورة غافر ( 40 ) ، الآية : 18 ، الصفحة : 469 .

17. a. b. الطبرسي ، مجمع البيان : 4|518 .

18. الزمخشري ، أساس البلاغة : 5 .

19. ابن منظور ، لسان العرب : 1|346 .

20. القران الكريم : سورة الإنسان ( 76 ) ، الآية : 6 و 7 ، الصفحة : 579 .

21. الفراء ، معاني القرآن : 3|231 .

22. ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : 4|467 .

23. القرآن الكريم : سورة المزمل ( 73 ) ، الآية : 14 ، الصفحة : 574 .

24. الزمخشري ، الكشاف : 4|212 .

25. الطبرسي ، مجمع البيان : 5|430 .

26. القرآن الكريم : سورة إبراهيم ( 14 ) ، الآية : 48 ، الصفحة : 261 .

27. القرآن الكريم : سورة الغاشية ( 88 ) ، الآية : 1 ، الصفحة : 592 .

28. الطبرسي ، مجمع البيان : 5|478 .

29. الراغب ، المفردات : 361 .

30. الزمخشري ، الكشاف : 4|246 .

31. ابن منظور ، لسان العرب : 19|362 .

32. القرآن الكريم : سورة القيامة ( 75 ) ، الآيات : 5 - 12 ، الصفحة : 577 .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد