علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الحكيم
عن الكاتب :
عالم فقيه، وأستاذ في الحوزة العلمية .. مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، استشهد سنة٢٠٠٣

التَّطوُّر في الأوضاع الإقليمية وتأثيره على المرجعية

 

التَّطوُّر في الأوضاع الإقليمية وتأثيره على المرجعية

إنّ العالم الإسلامي، قبل سقوط الدولة الإسلامية، كان محكوماً بقوانين النِّظام الإسلامي بصورة عامة؛ وذلك على الرغم من أنه نظام لم يكن يمثل في قوانينه الحق الإسلامي الكامل؛ إذ كانت الدولة تشكو من الكثير من الانحرافات والأخطاء والتخلف في جوانب عديدة، ولكن الحكم فيها، على أي حال، كان باسم الله ، والإسلام، والخلافة الإسلامية، وباسم الخلافة لرسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) وتطبيق الحكم الإسلامي، لذلك نجد أنّ علماءنا ومراجعنا العظام، عندما واجه هذا الحكم تهديداً حقيقياً وتعرضت بيضة الإسلام فيه إلى الخطر أفتى جميع هؤلاء المراجع، وعلى اختلاف مشاربهم ومواقفهم السياسية والاجتماعية، بالجهاد لمواجهة هذا الخطر، باعتبار أنّ النظام الإسلامي يشكل الإطار والحصن والسور للمحافظة على أصل الدين والشعائر الدينية والثقافة الإسلامية.

وبعد سقوط النظام الإسلامي، وقيام الأنظمة الوضعية، بصورها المختلفة التي شهدها عالمنا الإسلامي بعد الحربين العالميتين: الأولى والثانية، برز العداء جلياً للإسلام وشعائره المقدسة، ولعلَّ أوضح صورة من صور العداء للإسلام، هي:

محاولة «فصل الدين الإسلامي عن مسرح الحياة السياسية»، ومن ثم محاصرة الإسلام في شؤون الأحوال الشخصية، والممارسات الرسمية كالأعياد والشعائر العامة للمسلمين، بل أشد من ذلك محاصرة الحكام الإسلام في المسجد وأماكن العبادة، ثم تطور ذلك في بعض بلادنا الإسلامية إلى عملية واسعة لقمع الإسلام والدين والمتديِّنين، بعد أن وجدوا أنّ الإسلام والمسلمين لا يمكن أن يقبلوا محاولة العزل والحصار هذه.

هذا الواقع المزري شاهدناه في حياتنا، ووجدنا كيف قامت هذه الأنظمة الوضعية بعمليات قمع تجاه الحوزة العلمية والمرجعية الدِّينية نفسها ـ باعتبارها المؤسسة المهمَّة المسؤولة عن الحفاظ على بيضة الإسلام ومبادى الدين والتصدي لمقاومة الظلم والطغيان، وعن العمل السياسي والاجتماعي ـ بالرغم من مواقفها المشرِّفة والعظيمة في الدفاع عن استقلال البلاد وتحريرها من هيمنة الاستكبار والأجانب، وجهودها في المحافظة على المجتمع والأمة.

لقد ورثنا أوضاعاً عاصرها آباؤنا في هذا القرآن الذي انتهى؛ حيث كان المستعمر البريطاني هو المسيطر على العراق بعد سقوط الدولة الإسلامية، فنهض علماء الإسلام يدعون إلى النهضة والتحرُّر من سيطرة الاستعمار البريطاني بعد ثلاث سنوات من سقوط بغداد بيده، وذلك في الثورة المعروفة بـ «ثورة العشرين» التي قادها المراجع، فتصدَّى المرحوم الميرزا محمد تقي الشيرازي (رض) ومن بعده المرحوم «شيخ الشريعة الأصفهاني» لهذه المهمَّة. ونتيجة لهذه المواجهة الجهادية اضطرَّ المستعمر الإنجليزي لأن يستجيب ـ ولأوَّل مرة بعد الحرب العالمية الأولى ـ ويوافق على قيام حكومة وطنية ـ حسب المصطلح السياسي المعروف ـ وعندما قامت هذه الحكومة في العراق، كان رأي العلماء أن تكون حكومة إسلامية، لكن الاستعمار البريطاني فرضها حكومة وضعية غير إسلامية، وكان أوَّل موقف اتخذته هذه الحكومة هو الموقف ضد المرجعية الدينية التي قادت الشعب إلى الاستقلال، فقامت بنفيها وإخراج العلماء (الإيرانيين) من النجف الأشرف إلى إيران. أما العلماء غير الإيرانيين، فنفوا إلى مناطق أخرى، بعضهم إلى الجزر المستعمرة من قبل بريطانيا في المحيط الهندي، وبعضهم إلى مناطق أخرى، وهذا عمل لم يجرؤ الاستعمار البريطاني نفسه على القيام به، ولكن قام به هؤلاء «الوطنيون» الذين حكموا العراق برعاية بريطانية.

والأمر نفسه نراه في إيران، فقد قامت حركة واسعة في إيران باسم الحركة «المشروطة» بقيادة العلماء. وقد أرادت هذه الحركة أن يكون الحاكم فيها مقيَّداً بالقوانين الإسلامية، وأن لا يعمل بحسب رغباته وميوله ومصالحه الخاصة، بل يكون مقيداً ومشروطاً بقوانين الإسلام ومصالح الشعب والمؤسسات الدستورية، وهي حركة واسعة جداً قادها العلماء أيضاً، وفي مقدمتهم آية الله «الشيخ محمد كاظم الخراساني» وآية الله «الشيخ فضل الله النوري».

ثم لمَّا انتصرت هذه الحركة والتزم الشاه في البداية بها صورياً، ثم أطيح به بانقلاب عسكري كان شعاره تنفيذ الدستور، تحوَّلت الحكومة إلى حكومة وضعية، وجاء إلى السلطة «رضا خان بهلوي»، وكان أوَّل أعمال هذا الحاكم قيامه بعملية قمع واسعة للإسلام ولعلماء الإسلام معاً، في عملية أشد وأقسى ممَّا جرى في العراق نفسه، ففي العراق تركَّزت القضية في فصل الدين عن السياسة والحكم، أما في إيران فإنه، مضافاً إلى ذلك، تدخل الحاكم في تفاصيل حياة الناس ومنع إقامة الشعائر الدينية والمجالس الحسينية، وحارب الحوزة العلمية، وتدخّل في السلوك الاجتماعي العام للأفراد، وفرض اللباس الموحَّد الغربي على الرجال، والسفور على النساء، مستخدماً أساليب القمع الواسعة لتنفيذ هذه العملية.

وشهدت تركيا بقيادة الضابط «مصطفى كمال» أوضاعاً مماثلة قاسية، أعلن فيها الحاكم سقوط الدولة الإسلامية والتنكُّر للهوية الإسلامية، ومعاداتها بصورة رسمية؛ مضافاً إلى ذلك المناطق الأخرى التي بقيت تحت السيطرة الغربية.

 

وبصورة إجمالية: وجدت أنظمة وضعية في عالمنا الإسلامي قامت بعملين رئيسيين:

الأول: محاصرة الإسلام وإبعاده عن الحياة.

الثاني: استخدام القمع لتنفيذ هذه السياسة على خلاف رغبة الأمَّة.

ومن الطبيعي أن تفرض هذه التحوُّلات وتلقي بظلالها الثقيلة والمعقدة على المرجعية وأوضاعها، الأمر الذي يقتضي إعادة النظر والتجديد في صياغتها ومنهجها وأساليبها وطريقة أدائها.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد