علمٌ وفكر

العالم حادث

الشيخ محمد جواد مغنية

 

هذا الكون العجيب بأرضه وسمائه يقال له العالم. وقد اختلف الناس هل هو حادث، أي لم يكن فكان، أو قديم لا أول له ولا آخر؟

ذهب المسلمون والنصارى واليهود والمجوس إلى أنه حادث. وقال آخرون بأنه قديم. وهذه المسألة من أجلّ المسائل وأهمها، وعليها ترتكز قواعد الأديان كلها، حيث اتفقت كلمتها على أن القديم واحد لا غير، وهو اللّه سبحانه، وأنه وجد في الأزل، ولم يوجد معه شيء، وأنه خلق الكون من العدم، وأبدعه حسب مشيئته وإرادته. وإذا قلنا بقدم العالم يلزم اللوازم الباطلة الآتية:

1 - أن لا يحتاج العالم إلى موجد لأنه لا بداية له ولا نهاية «1».

2 - أن يكون القديم أكثر من واحد، وأنه كان اللّه وكان معه قديم آخر.

3 - أن يكون اللّه مغلوبًا على أمره، لأن الكون وجد في الأزل قهرًا بحيث لا يستطيع أن يحدثه في زمان متأخر.

4 - أن يكون اللّه غير قادر على إفناء هذا العالم، والإتيان بعالم آخر يحشر الناس فيه للحساب، لأن هذا العالم لم ينتقل من العدم إلى الوجود فكذلك لا ينتقل من الوجود إلى العدم، ولأنه ثابت لا يتبدل، كما هو شأن القديم.

 

ومن أجل ذلك قال العقلاء وأهل الأديان: إن العالم حادث، وإن اللّه كان وحده ولم يشاركه شيء في القديم والأزل. وقد استدل متكلمو المسلمين على حدوث العالم بأدلة أشهرها الدليل التالي:

وهو أن الجسم لا يخلو من الحوادث، وكل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. وإليك شرح هذا الدليل:

إن من جملة الحوادث التي لا ينفك عنها الجسم السكون والحركة، لأن كل جسم لا محالة إما أن يكون ساكنًا، وإما أن يكون متحركًا، ومعنى سكون الجسم مكوثه في مكان واحد أكثر من زمان واحد.

ومعنى حركته انتقاله من مكان إلى مكان. والسكون والحركة من الأمور الحادثة، لأن كلًّا منها يزول ويتبدل، فالمتحرك قد يسكن، والساكن قد يتحرك، والقديم هو الثابت بطبعه على طريقة واحدة لا يتغير ولا يتبدل، ثم إن الحركة مسبوقة بحركة قبلها، وكذلك المكوث في المكان الواحد مسبوق بمكوث قبله، أي أن المكوث في اللحظة الثانية مسبوق بالمكوث في اللحظة الأولى، وكل ما سبق بالغير فهو حادث.

 

وإذا كان السكون والحركة حادثين، والجسم لا يخلو عنهما لزم أن يكون الجسم محلًّا للحوادث، وإذا كان محلًّا للحوادث فلا بد أن يكون حادثًا، ولو افترضنا أنه غير حادث لكان معنى هذا أنه وجد في الأزل قبل الحركة والسكون، وأن الجسم قد مضى عليه أمد لم يكن ساكنًا فيه ولا متحركًا، وهو محال، وعليه تكون الأجسام حادثة.

وسلك فيلسوف العرب الكندي طريقًا آخر لإثبات حدوث العالم، قال: كل جسم موجود بالفعل أو سيوجد فهو متناه، ويستحيل أن يكون سرمديًّا وباقيًا إلى الأبد. واستدل بالدليل المعروف عند الفلاسفة ببرهان التطبيق الذي اعتمدوا عليه لبطلان التسلسل وعدم التناهي في الزمان الماضي، فاتخذ الكندي منه دليلًا على التناهي في المستقبل أيضًا، ويتلخص: في أننا لو فصلنا جزءًا محدودًا من الجسم المفروض أنه لا نهاية له، فالباقي من هذا الجسم إن كان متناهيًا فهو المطلوب، وإن فرض أنه غير متناه، وأنه بقي كذلك غير متناه أيضًا بعد أن زدنا عليه ما أخذنا منه أولًا، ولكن هذا الجسم بعد الزيادة أكبر منه قبلها، فإذا كان في كلا الحالين غير متناه تكون النتيجة الحتمية أن اللامتناهي أكبر من اللامتناهي، وأن الكل بمقدار الجزء، وهو محال. إذن فلا بد أن يكون الجسم متناهيًا في المستقبل، ويكون أيضًا متناهيًا في الماضي، وهو معنى الحدوث.

 

وإذا أثبت أن العالم حادث، وأنه وجد بقدرة اللّه المبدعة المطلقة، فيكون بقاؤه متوقفًا على إرادته أيضًا، إن شاء أبقى، وإن شاء أفنى. وقد يتساءل: كيف توجد أشياء من لا شيء؟ ونجيب بالتساؤل: من أين جاء ذلك الشيء الذي هو مصدر الأشياء؟ فإن وجد من شيء آخر أعدنا التساؤل إلى ما لا نهاية، ولا حل أبدًا إلا أمر اللّه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.

فالإرادة الإلهية هي التي تبدع الكون، وتوجده بعد أن لم يكن شيئًا، وهي التي تفنيه فيصبح لا شيء، والعلم الحديث لا يتصادم مع هذا بخاصة بعد أن أثبت أن المادة تتحول إلى طاقة. والطاقة إلى مادة، وأنه لا حلول نهائية، ولا حقائق مطلقة في «علم الطبيعة الذي تكوّن على يد كبار علماء النسبية في القرن العشرين، وهم الذين تتسع فلسفتهم ونظرتهم إلى هذا العالم المادي للقول بالخلق والفناء، كما تتسع للقول بنوع من المعرفة بهذا العالم غير المعرفة المأخوذة من العلم الطبيعي» «2».

 

وبالتالي، فنحن نتحدى الفلاسفة والعلماء في هذا القرن وفي كل قرن أن يحلوا معضلة الكون حلًّا سليمًا دون أن يرجعوا إلى قدرة اللّه وإرادته، فإن فعلوا ، ولن يفعلوا، فنحن أول من يسلم ويستسلم. وبالتالي، فإن كل ما نحسه ونشاهده من أنفسنا ومن عوارض الكون فهو حادث ومتجدد، فمن الكبر إلى الصغر، ومن الشروق إلى الغروب، ومن الجذب إلى الإقبال، ومن الصحو إلى غيره، وهكذا حتى الحجر الأصم في تغير دائم، كما تقتضيه النظرية الحديثة، والفلسفة الدياليكتيكية، وتغير هذه الأشياء معناه حدوثها وتجددها، وإذا كانت حادثة فالنتيجة المنطقية أن الكون الذي يتألف منها حادث أيضًا، لأن وجود الكلي عين وجود أفراده، وليس له وجود مستقل عنها.

والحمد للّه الأول بلا أول يكون قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1). حاول بعض الفلاسفة أن يوفق بين القول بقدم العالم، وإيجاد اللّه له، فقال: إن للقديم معنيين الأول القديم بالذات، وهو ما كانت ذاته علة لوجوده. وهذا يصدق على اللّه وحده، والثاني القديم بالزمان، وهو الذي لا أول له، غير أنه مقارن لقوة تواجده، وهو العالم، وعليه يكون العالم قديـمًا زمانًا، ممكنًا ذاتًا، لأن اللّه أوجده. وإذا دفع هذا القول أشكال عدم الخلق فإنه لا يدفع بقية اللوازم الباطلة، كتعدد القديم وكون اللّه مغلوبًا على أمره.

(2). أبو ريده «رسائل الكندي الفلسفية» ص 75 طبعة 1950.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد