قرآنيات

في رحاب سورة العصر (1)

السيد موسى الصدر

 

﴿والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾ [العصر]

 

هذه السورة المباركة مثل كثير من السور القرآنية تبدأ باليمين بالعصر والعصر هو الزمان. وسبب اليمين بالعصر كسبب اليمين ﴿والتين والزيتون﴾ [التين، 1]، واليمين ﴿الشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها﴾ [الشمس، 1-2]، وبالليل وبالنهار وأمثال ذلك، تأكيد من القرآن الكريم بأن الموجودات الكونية هي موجودات مقدسة. بأي شيء يُحلف بها وسبب قداستها ما ورد في القرآن الكريم بأن الموجودات الكونية والطاقات الكونية والقوى الكونية كلها خاضعة لأوامر الله وساجدة بأمر الله ومسبحة بحمد الله ومصلية لله....

 

فسورة العصر تبدأ بالتأكيد واليمين بالعصر، والمفهوم من كلمة العصر في هذه البداية اليمين بالزمن، فإن البحث الذي سيأتي متناسب مع الزمن. ثم أن في كلمة العصر ﴿والعصر﴾ يطلق على الذيل من النهار تعبيرًا بأن ما سيرد في هذه السورة المباركة حول زوال الإنسان وانتهاء الإنسان إلا إذا مدد عمره بعمله.

 

﴿والعصر﴾ نحلف بالعصر ونؤكد ﴿إن الإنسان لفي خسر﴾، إن الإنسان في خسر دائم لأنه مع مرور كل يوم يفقد يومًا من عمره وقسطًا من رأس ماله وورقة من كتاب حياته، فالإنسان العادي في خسر دائم إلا الذين تتوفر لهم شروط أربعة: ﴿آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾.

 

الإيمان هو الشرط الأول الذي يمدد وجود الإنسان ويُشعِرُ الإنسان بأنه مرتبط بالله العظيم، مجاله جميع المخلوقات ممتد من الأزل ومنتهٍ إلى الأبد. أما الذي لا يؤمن فيعتبر نفسه ظاهرة من الظواهر الكونية عمره قصير وحجمه قليل، أما المؤمن الذي يؤمن بأن الله هو خالق الموت والحياة فيعتبر الموت انتقالًا من مكان إلى مكان ومن بيئة إلى بيئة.

 

والذين عملوا الصالحات، والعمل الصالح هو ضمانة الإيمان فالإيمان يذوب دون العمل الصالح كما أن المشاعر النفسية تذوب عندما لا نمارس مقتضياتها؛ والعمل الصالح أيضًا أثر من آثار الإيمان، فهناك تفاعل بين الإيمان والعمل الصالح ولذلك فقد ورد في مئات من الآيات القرآنية كلمة الإيمان مقترنة بكلمة العمل الصالح.

 

أما الشرطان الثالث والرابع فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومعنى التواصي التوصية والوصية من الجانبين. ويقصد القرآن الكريم بهذه الطريقة أن الإنسان الذي آمن وعمل الصالحات فمجرد الإيمان والعمل الصالح لا يكفي في أن لا يعد من الخاسرين، أما إذا أردنا أن لا نكون من الخاسرين فعلينا أن نتعاون بالحق ونتواصى بالصبر. ومعنى ذلك أن الإنسان موجود اجتماعي فإذا لم يكن أمامه مجتمع صالح يوصي الآخرين ويوصيه الآخرون بالحق وبالصبر فهو يذوب في مجتمعه وينحرف ويصبح من الخاسرين.

 

وبالتالي تأكيد من القرآن الكريم بأن الإنسان عليه أن يسعى إلى جانب إيمانه وعمله الصالح إلى تكوين مجتمع صالح يعيش فيه في جو ومناخ ملائم كالطائر في سربه، وإذا لم يتمكن من تكوين مجتمع صالح كبير فعليه أن يكوِّن مجتمعًا صالحًا صغيرًا في بيته أو في عائلته أو في مكتبه أو بين أصدقائه حتى يتمكن من الاستمرار في الخط الصالح، خط الإيمان والعمل الصالح.

 

أما إذا عاش الإنسان في المجتمع غريبًا وحيدًا لا يوصيه أحد بالحق ولا يوصيه أحد بالصبر ولا يوصي هو أحدًا بالحق ولا بالصبر، بطبيعة الحال بالتدريج يذوب إيمانه ويتقلص عمله الصالح، وبالتالي يؤدي إلى خسارة ولا يريد أن يكون من الخاسرين.

 

فالبقاء وعدم الخسارة والربح للإنسان أن يكون من المؤمنين ومن الذين يعملون الصالحات ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، وهكذا نصل إلى الإنسان الرابح الذي لا يتمكن الزمن أن يقبض عليه وأن يقضي عليه، ولا يتمكن الموت أن يقطع طريقه وأن يوقفه عند حده جامدًا ميتًا لا يتحرك.

 

فالإنسان المؤمن والذي يعمل الصالحات هو الإنسان الذي يتمكن من تخطي الموت وتجاوز حقبة الموت فهو يتمكن أن يحول زمانه المتحرك الزائل إلى نتائج خالدة، يتمكن أن يكوِّن أساسًا يبقى بعد موته. يعطي ويعمل ويجدد ويجلب له ثوابًا وخيرًا وخدمة وعطاء. فالذي يزرع شجرة ثم يموت فهو يعطي طالما أن الشجرة تُظلّل وتُثمر، والذي يؤلف كتابًا، أو يكتشف علمًا، أو يعلم تلميذًا يعطي حتى بعد موته ولذلك ورد في الخبر الشريف والحديث المبارك: "يموت ابن آدم وينطفئ عمله إلا من ثلاث: ولد صالح، صدقة جارية، كتاب علم يُنتفع به".

 

هذه الأمثلة الثلاثة وكل ما يكون من هذا النوع هو خلود الإنسان وبقاء الإنسان، فالإنسان بإمكانه أن يتغلب على مرور الزمن وأن يتخطى الموت وأن لا يموت موتًا حقيقيًا كما أنه يتمكن من أن يموت موتًا حقيقيًا وهو في حالة الحياة، ذلك إذا تجمَّد وما أعطى. أما المؤمن فهو ليس إلا في ربح مستمر يزداد خيرًا وعطاء مع مرور الزمن ويكتمل وينمو حتى بعد موته.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد