الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..
من أهم ما تطرقت له الآيات المباركات هو أنّ القرآن مبين لكل شيء.
«تبيان» (بكسر التاء أو فتحها) له معنىً مصدري (1) ، ويمكن الاستدلال بوضوح على كون القرآن بياناً لكل شيء من خلال ملاحظة سعة مفهوم «كل شيء» ، ولكنْ بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإِنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع ـ على كافة الأصعدة المادية والمعنوية ـ إِلى حال التكامل والرقي ، يتّضح لنا أنّ المقصود من «كل شيء» هو كل الأُمور اللازمة للوصول إِلى طريق التكامل ، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية... الخ ، وإِنّما القرآن دعوة حق لبناء الإِنسان ، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم ، وصحيح أيضاً أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية ، ولكنْ ليس ذلك الكشف هو المراد ، وإِنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإِنسان إِلى شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه.
ويشير القرآن الكريم تارةً إِلى جزئيات الأُمور والمسائل ، كما في بيانه لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض ، حيث ذكر (18) حكماً في أطول آية قرآنية وهي الآية (282) من سورة البقرة (2).
وتارةً أُخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإِنسان بصورها الكلية ، كما في الآية التي ستأتي قريباً ، حيث يقول : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل : 90] .
وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (34) من سورة الإِسراء : { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } ، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأُولى من سورة المائدة : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة : 1] ، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (78) من سورة الحج : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } وكمفهوم إِقامة القسط والعدل كما جاء في الآية (25) من سورة الحديد : { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ، وعموم مفهوم رعاية النظم في كل الأُمور في الآيات (7 ، 8 ، 9) من سورة الرحمن : {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} وعموم مفهوم الإِمتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (85) من سورة الأعراف : {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} ، بالإِضافة إِلى الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم ، وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن ، لتكون للإِنسان نبراساً وهاجاً في كافة مجالات الفكر والحياة والإِنسان.. وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو الشك على أنّ القرآن الكريم (فيه تبيان لكل شيء).
بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه ، وإِنّما عيّن لها مَنْ يؤخذ منه التفاصيل ، كما تبيّن لنا ذلك الآية (7) من سورة الحشر : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } .
والإِنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه ، واستخرج برامجاً وتوجيهات توصله إِلى السعادة ، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله.
ولهذا ، فَمَنْ استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن ، فهو لم يعرف القرآن ، وطلب من الغير ما هو موجود عنده.
وإِضافةً لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإِسلام في كل الأُمور ، فقد حَمَّلَتْ المسلمين مسؤولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لاستخراج كل ما يحتاجونه.
وقد أكّدت الرّوايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه الآية وما شابهها من آيات.
منها : ما روي عن الإِمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال : «إِنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى واللّه ما ترك شيئاً تحتاج إِليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن ، إِلاّ وقد أنزله اللّه فيه» (3).
وفي رواية أُخرى عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال : «إِنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إِليه الأُمّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شيء حداً ، وجعل عليه دليلا يدل عليه ، وجعل على مَنْ تعدى ذلك الحد حداً» (4).
وجاء في الرّوايات الشريفة الإِشارة إلى هذه المسألة أيضاً. وهي أنّه مضافاً إلى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس ، فإنّ باطن القرآن بمثابة البحر الذي لا يدرك غوره ، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلاّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وأوصياؤه بالحق ، ومن هذه الرّوايات ما ورد عن الإِمام الصادق (عليه السلام)أنّه قال : «ما مِنْ أمر يختلف فيه اثنان إِلاّ وله أصل في كتاب اللّه عزَّ وجلّ ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال» (5).
إِن عدم إِدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه بـ(عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة والاستفادة منه.
_____________________
1.نقل «الآلوسي» في (روح المعاني) عن بعض الأدباء : أنّ جميع المصادر على وزن (تفعال) تفتح تاؤها إِلاّ مصدرين «تبيان» و«تلقاء». ويعتبرها بعض مصدراً ، وبعض آخر يعتبرها اسم مصدر.
2.راجع الى هذا التفسير ، ذيل الآية 282 من سورة البقرة .
3.تفسير نور الثقلين ، ج3 ، ص74 ، ح176.
4.المصدر السابق ، ح177.
5.المصدر السابق ، ص75 ، ح180.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان