قرآنيات

كيف نزل القرآن وأول ما نزل منه (2)


 الشيخ محسن الأراكي

أول ما نزل من القرآن الكريم

تعددت الأقوال حول أول ما نزل من القرآن وأشهر ما قيل في ذلك وأصحه، أن قوله تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ إلى قوله تعالى ﴿عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أول ما نزل من القرآن، وقد روي في ذلك أيضاً رأيان آخران:
أحدهما: أن سورة الفاتحة هي أول ما نزل من القرآن.
ثانيهما: أن سورة المدّثر هي أول ما نزل من القرآن، روي عن جابر وقد جمع بعض الباحثين هذه الآراء الثلاثة، فقال: وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وأول ما نزل من أوامر التبليغ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ وأول ما نزل من السّور (سورة الفاتحة).
ومهما يكن من أمر فلم يعد بين علماء القرآن خلاف في أن ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ هو أول ما نزل من القرآن، وأما غير ذلك من الأقوال فبين مرفوض لا يعبأ به وبين ما جمع بينه وبين كون﴿اقْرَأْ﴾ أول ما نزل بوجه من وجوه الجمع والذي يهمنا في هذا الموضع من البحث هو الصورة التي تم بها أول نزول للقرآن على النبي صلّى الله عليه وآله كما رسمتها لنا كتب التاريخ والحديث المتداولة بين إخواننا العامة ولم يكن يعنينا ذلك كثيراً لولا ما في ذلك من شناعة النّسبة إلى الرسول الكريم وبشاعة المشهد الذي تصوره لنا تلكم الأحاديث. وسوف نحاول فيما يلي نقل تلك الصور والمشاهد مع نقدها على ضوء من العقل ومسلّمات الإسلام وأصوله.
وروى الطبري في تفسيره: عن عروة عن عائشة، أنها قالت: كان أول ما ابتدى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصادقة كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء، فكان بغار حراء يتحنّت فيه اللّيالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق فأتاه، فقال: يا محمد أنت رسول الله قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجثوت لركبتي وأنا قائم، ثم رجعت ترجف بوادري ثم دخلت على خديجة، فقلت زمّلوني، حتى ذهب عني الروح ثم أتاني فقال: يا محمد، أنا جبرئيل وأنت رسول الله، قال فلقد هممت بذلك فقال: يا محمد أنا جبرئيل وأنت رسول الله، ثم قال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني فغطّني ثلاث مرات حتى بلغ منّي الجهد، ثم قال إقرأ باسم ربّك الذي خلق، فقرأت، فأتيت خديجة فقلت لقد أشفقت على نفس، فأخبرتها خبري، فقالت أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ووالله إنك لتصل الرّحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد قالت: اسمع من أبن أخيك فسألني فأخبرته، فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلّى الله عليه وسلم ليتني فيها جذع، ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك، قلت: أو مخرجي هم؟ قال: نعم إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلا عُودي ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً هذه هي القصة كما روتها لنا كتب التفسير والتاريخ والحديث لدى إخواننا أهل السّنّة.

والقصة هذه مختلقة دون ريب، وقد افتعلتها أيادٍ أثيمة عبثت بالتاريخ الإسلامي أيما عبث وشوّهت حقائق الأحداث أيما تشويه، وليست هذه القصة بأكثر خطراً على الإسلام والمسلمين ولا أقل تعبيراً عن الكيد والحنق الذي يكنّه مفتعل الحديث للإسلام من قصة أخرى تقرن في كثير من كتب التاريخ والتفسير والحديث بهذه القصة وإليك نصها: عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير: أنه حدّث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه جبرئيل عليه السلام كما كان يصنع، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخديجة، يا خديجة هذا جبرئيل قد جاءني، قالت: قم يا ابن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى، قال فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس عليها، قالت هل تراه قال: نعم، قالت: فتحول فجلس على فخذي اليمنى، قالت: فتحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس على فخذها اليمنى فقالت: هل تراه؟ قال نعم قالت: فتحول فجلس في حجري، قالت: فتحول فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجلس في حجرها قالت: هل تراه؟ قال نعم قالت: فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال لا، قالت يا بن عمّ أثبت وأبشر، فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان.

وهذه جريمة أخرى من جرائم الدسّ والاختلاق والتزوير التي بُلي بها الإسلام أشد البلاء منذ انحسرت القيادة المبدئية عن مسرح الحكم وتناولت أمواج الحوادث وتيارات الأهواء سفينة الإسلام فأخذت بها يميناً وشمالاً. ولا بد هنا أن نلمح إلى دلائل الاختلاق والانتحال البادية على هاتين القصتين، ونبدأ بالقصة الأولى وفيها من دلائل الاختلاق ما يلي:

الأول: إن الرواية تصرح في أول الأمر بأن أول ما ابتدى به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ثم حبّب إليه الخلاء. مما يدل على أن مسألة النبوة المحمدية كانت مسبوقة برعاية خاصة وأنها لم تكن حدثاً فجائياً لم تمهد له الأرضية ولم تهيأ له المقدمات..وإنما أعد الرسول الكريم إعداداً إلهياً خاصاً تحت رعاية وتربية إلهية فريدة تتقبل الوحي والاتصال بعالم الغيب، فلم يكن نزول الوحي عليه أمراً مرتجلاً ومولود الساعة. وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان المتأمل يقف حائراً أمام المشهد الذي تصوره الرواية لنزول الوحي.
رسول الغيب ينزل على النبي ليبتعثه رسول رحمةٍ للعالمين، فترتجف بوادر هذا ويفقد تمالكه حتى يكاد يطرح نفسه من حالق من جبل. ثم يصرح له رسول الغيب بالحقيقة مرة ومرتين.. أنت رسول الله وأنا جبرئيل.. ولا يغني هذا التصريح في رفع الهول وإزالة الروع شيئاً.. أفليس تلك التربية الإلهية الإعداد الرباني كان كفيلاً بتهيئة الجو الروحي والنفسي الذي تزول معه كل أشكال القلق والاضطراب المنبعث عن الارتجال المفاجئ.

الثاني: إن الاتصال بالعالم الأعلى من طبيعته أن يلهم الإنسان في حالة الصلاة وأمثالها. ولا يمكن أن يكون الوحي وهو ليس إلا نوعاً خاصاً من الاتصال بعالم الغيب إلا باعثاً على هذا السكون والاطمينان والاستقرار النفسي، بل لا بد أن يوجد من الاطمينان أسمى أشكاله في النفس ومن الاستقرار على نماذجه في الروح.. أما أن تصيب النفس البشرية بهذه المسّة المروّعة التي تشبه مسّة العفاريت والأغوال، فتترك الإنسان في قلق صاخب واضطراب ثائر، فهذا مما لا تهضمه العقول.

الثالث: أن قبول هذه الرواية يعني قبول أحد الأمور التالية:
1 - أن يكون الرسول - والعياذ بالله - غير صادق فيما يحدّث به عن حالة الوحي الأول.
2 - أن يكون صادقاً ولكن المشاهد التي حكاها عن ظروف الوحي الأول وملابساته، لم تكن إلا صوراً خيالية وأشباحاً وهمية كالتي تتراءى للمصابين بالأمراض النفسية والروحية.
3 - أن يكون صادقاً، والمشاهد التي شاهدها مشاهد حقيقية غير خيالية، وكان الرسول صلّى الله عليه وآله على سلامة كاملة، ولكنه مع ذلك لم يؤمن بكل ما رأى ولم تكف تلك الحقائق العينية التي شاهدها وعاشها أن توجد في قلبه اطميناناً ويقيناً بالوحي بل ظل شاكاً متردداً في هذا الذي تراءى له، أهو حقيقة أم خيال، أهو واقع أم وهم.. حتى طمأنته خديجة بذلك وحتى شهد له ورقة بصحة كل ما رأى وكل ما شاهد.
وكل هذه الثلاثة باطلة بحكم العقل والواقع. أما الأول والثاني فهما باطلان بحكم العقل وبحكم الشواهد والأرقام التاريخية التي تنطق بالعظمة التي كانت تتصف به شخصية الرسول الكريم والكمال الإنساني الذي كان قد تجلى بأسمى أشكاله في وجوده الطاهر، وهذا بغض النظر عن كونه رسول الله وخاتم النبيين وسيد الأنبياء.
وأما الثالث، فهو زائف بحكم الوجدان، أو ليس من شهيد الحقيقة عياناً أولى باليقين بها ممن لم يعلم بها إلا بالسماع عن مخبر واحد شاكٍ في حقيقة ما يخبر عنه، أوليس من الهزل أن يرى امرؤ حدثاً ثم يخبر به إنساناً آخر ثم يكون هذا الثاني أكثر منه اطميناناً بما أخبره به، بل يحاول تطمينه وتسكينه إلى الحدث الذي أخبره به.
ثم لا نعلم كيف يرضى مفتعل الرواية أن يكون النبي - والعياذ بالله - شاكاً فيما سمعه ورآه، ثم ينقلب شكه هذا إلى يقين بمجرد أن سكّنته خديجة أو أقره ورقة على ما رآه وأخبر عنه؟!

الرابع: والآن لنعرف المصدر الذي استلهم منه واضع هذه الرواية هذه الأرقام التي نسجها حول بدء الوحي، فإننا إذا طالعنا شيئاً من كتب العهدين رأينا فيها صوراً من الوحي على الأنبياء تحمل نفس الطابع الذي تحمله روايتنا هذه، ونذكر على سبيل المثال النماذج الآتية: في التوراة أن إبراهيم لما أوحي إليه في شأن نسله وغربتهم وقع عليه عند مغيب الشمس سبات ورعبة مظلمة.(سفر التكوين: الإصحاح 15/الآية 12-15).
وأن يعقوب لما رأى في الحلم، السلّم والملائكة وخاطبه الرب واستيقظ خاف وقال ما أرهب هذا المكان. (التكوين: الإصحاح 28/12-18). وعن قول دانيال في بعض رؤياه ومكاشفاته بالوحي، وسمعت صوت إنسان بين أولادي فنادى وقال: يا جبرائيل فهمّ هذا الرجل فجاء إلى حيث وقفت، ولما جاء خفت وحزرت على وجهي وإذ كان يتكلم معي كنت مسنجاً على وجهي إلى الأرض، فلمسني وأوقفني على مقامي. (كتاب دانيال/الإصحاح8/16-19). وفي الإنجيل: ان زكريا لما رأى ملاك الرب عن يمين مذبح النجور اضطرب ووقع عليه الخوف. (إنجيل لوقا11/12). فالرواية إذن إسرائيلية مدخولة شاء بها اليوم الحاقدون ومن شاكلهم من عصابة المختلقين والوضّاعين أن يطفئوا نور الإسلام ويشوهوا صورته ويغيروا معالمه. ولكن الله أبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. ومن الغريب الذي يؤسف له أن تتناقل كتب الحديث والرواية والتاريخ هذه الأكذوبة ويعتمد عليها الكتّاب الإسلاميون حتى المتجدّدون والمحدّثون منهم.

أما الرواية الثانية فهي مهزلة من مهازل الاختلاق والوضع، أو كان الوحي الإلهي ألعوبة يتلهّى بها البسطاء؟ أم كان النبي العظيم - والعياذ بالله - ذلك الرجل المتحلل المطواع الذي ينتقل من فخذ إلى فخذ إلى حجر لتقضي خديجة أمنيتها في رؤية الملك!، أم كانت خديجة سلام الله عليها المرأة الخفيفة العقل التي تطلب أمراً تعلم أن لا سبيل لها إليه؟. أو كانت النبوة ورسالة الله العظيم التي تحمل مسؤولية إنسان الأرض من أقصاها إلى أقصاها، لتخضع لهذه الأماني والأحلام التي تراود صدر هذا وذهن ذلك.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد