الشيخ محمد هادي معرفة
الجن في تعابير القرآن1
من الغريب أن نرى بعض الكُتّاب الإسلاميّين يلهجون بما لاكه المستشرقون الأجانب من فرض التعابير الواردة في القرآن بشأن الجنّ، تعابير مستعارة من العرب توافقاً معهم جَدَلاً كعامل تنفيذ في أوساطهم على سبيل المماشاة، لا على سبيل الحقيقة المعترَف بها. إذ يبعد اعتراف القرآن بما لا يعترف العلم التجربي بوجوده أو سوف ينتهي إلى إنكاره رأساً. لكن ذلك لا يوهن شأن القرآن بعد أن كان تعبيره بذلك ظاهريّاً ومجاراةً مع القوم. وهكذا تعبيره عن السحر وإصابة العين تعبير ظاهري وليس على حقيقته .
قالوا: وهذا نظير تأثّره ظاهراً بالنظام الفلكي البطلميوسي والطبّ الجالينوسي القديمين، وقد رفضهما العلم الحديث .
قلت: أمّا اعتراف القرآن بوجود الجنّ إلى جنب الإنس واشتراكهما في الخلق والتكليف وفي نهاية المطاف، فممّا لا يعتريه شكّ، ولا يسوغ لمسلم يرى من القرآن وحياً من السماء أن يرتاب في ذلك، فإنّ هناك وراء عالم الشهود كائناتٍ ملكوتية أعلى تُسمّى بالملائكة، وأخرى أدنى تُسمّى بالجنّ. الأمر الّذي صرّح به القرآن الكريم بما لا يدع مجالاً للريب فيه أو احتمال التأويل . ﴿ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ 2 . ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 3 . ويبدو أنّ خلق الجنّ كان قبل الإنس، حيث أمر إبليس وكان من الجنّ 4 أن يسجد مع الملائكة لآدم، بعد أن خلقه من طين فأبى واستكبر وكان من الكافرين 5 .
وأمّا العلم التجربي فلا متّسع له في هذا المجال، بعد أن كان سلطانه مهيمناً على عالم الحسّ، ومحدوداً بآفاقه من غير أن يمكنه لمس ما وراء ستار الغيب فكيف يجوز له بالنسبة إلى أمرٍ خارجٍ عن سلطانه أن يحكم عليه بنفي أو إثبات أو يجعله موضع رفض أو قبول ؟!
نعم، هناك لأصحاب المذاهب العقيلة من علماء المسلمين وغيرهم من المعتنقين بوحي السماء كلام عن مدى مقدرة هذا الكائن الغيبي، وهل له سلطان على التدخّل في شؤون الإنس أو يمسّه بسوء؟ الأمر الذي أنكروه أشدّ الإنكار، على خلاف أصحاب التزمّت في الرأي ممّن ركضوا وراء أهل البداوة في التفكير، واتّبعوا خرافاتهم الأساطيرية البائدة .
فالاعتراف بوجود الجنّ شيء، ورفض مقدرتهم على التدخّل في شؤون الإنس شيءٌ آخر، والرفض في هذا الأخير لا يستدعي رفضاً في أصل الوجود .
ذهب أصحاب القول بالعدل 6 إلى أنّه لا يجوز في حكمته تعالى أن يتسلّط كائن غيبي على كائن غيبي على كائن عيني فيتلاعب بنفسه وبمقدراته وهو لا يستطيع الذبّ عن نفسه حيث لا يراه. وكلّ ما قيل في مسّ جُنون وما شابه، فهو حديث خرافة ومن مزاعم باطلة تفنّده الحكمة الرشيدة. نعم سوى بعض الوساوس (إيحاءات مُغرية) يُلقيها شياطين الجنّ على شاكلتها من الإنس ﴿ ... يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ... ﴾ 7 . ﴿ ... وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ ... ﴾ 8 . ويقول الشيطان لمّا قُضي الأمر : ﴿ ... وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ... ﴾ 9 .
وزعم الإمام الرازي أنّ ظاهر المنقول عن أكثر الفلاسفة إنكار وجود الجنّ، استناداً إلى كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في رسالته في حدود الأشياء، حيث يقول : الجنّ حيوان هوائي متشكّل بأشكال مختلفة، ويُعقبّه يقوله: وهذا شرح للاسم. قال الرازي : وهذا يدلّ على أنّ هذا الحدّ شرح للمراد من هذا اللفظ، وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج 10 .
وقد أخذت دائرة المعارف الإسلامية المترجمة إلى العربيّة هذا الاستظهار من الرازي مستنداً لتنسب إلى الشيخ الرئيس إنكاره الباتّ لحقيقة الجنّ. جاء فيها: ولكنّ ابن سينا عند تعريفه لكلمة {جنّ} أكّد في غير مؤاربة أنّه ليست هناك حقيقة واقعة وراء هذه الكلمة 11 .
غير أنّ الاستظهار من الرازي خطأ، وكانت عبارة الشيخ الرئيس تعني: أنّ هذا التعريف للجنّ ليس حدّاً تامّاً ـ حسب مصطلحهم ـ وإنّما هو رسم ناقص لا يعدو شرح الاسم، كما في قولهم: سعدانة نبت، إذ ليس فيه ذكرٌ لذاتيّات المعرَّف (الجنس القريب والفصل القريب)، ومن ثمّ فهو تعريف اللوازم والآثار وليس بالجنس والفصل القريبين .
إذن، فنسبة إنكار حقيقة الجنّ إلى مثل الشيخ الرئيس ـ كبير الفلاسفة الإسلاميّين ومن ذوي العقول الراجحة المعتقدة بالإسلام والقرآن ـ جفاءٌ يُشبه الافتراء . ومن الغريب أنّ الإمام الرازي يُعقّب ذلك، بقوله: وأمّا جمهور أرباب الملل والمصدّقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجنّ: يا ترى أليس شيخ الفلاسفة الإسلامييّن من المصدّقين للأنبياء ولا سيما نبيّ الإسلام والقرآن العظيم؟!
وبعد، فإذ لم يَعُد البحث عن حقيقة الجنّ إلى مسألة فلسفية بحتة ولا إلى فرضية علمية محضة، وإنّما هو إخبار غيبي لا مصدر له سوى وحي السماء، وقد أكّدت عليه جميع الكتب السماوية واعتقدته أصحاب الملل ممّن صدّق برسالات الله في الأرض، من غير خلافٍ بينهم في أصل وجوده، إذن فلا مجال للتراجع تجاه إيهام أن سوف يرفضه العلم، مع فرض أن لا متّسع للعلم في هكذا مجالات هي وراء ستار الغيوب!
وللشيخ محمّد عبده كلام تفصيلي حول الملائكة والجنّ و الشياطين، له وجهٌ وجيه لمن تدبّره بإمعان . وعبثاً حاول بعضهم الإنكار عليه وربّما رميه بالخروج عن مظاهر الدين، وما هذه الهجمة إلاّ جفاء بشأن عالم مجاهد في سبيل الإسلام خبير 12 .
كلام عن مسّ الجنّ
وأمّا الكلام عن مسّ الجنّ وأنّ الجُنون داءٌ عارض من مسّه فيعالج باللجوء إلى الرُقي والتعويذات ودمدمة الكهنة وأصحاب التسخيرات وما إلى ذلك من خرافات بائدة. فالذي يمكننا القول فيه: أن ليس في القرآن شيء من ذلك، حتّى ولا إشارة إليه، إذ لا شكّ أنّ الجنون داءٌ عصبيّ وله أنحاء. بعضها صالح للعلاج بأسباب عادية ذكرها الأطبّاء في كتبهم قديماً وحديثاً، وهناك مراكز لمعالجة هذه الأمراض أو التخفيف من وطئتها بالأساليب العلاجية الطبيعية المتعارفة وليست بالأساليب الغريبة .
وليس في القرآن ما يبدو منه أنّ صاحب هذا الداء إنّما يُصاب على أثر مسّ الجنّ له . نعم سوى استعماله لهذه اللفظة (المجنون) في أحد عشر موضعاً 13 . وكذا التعبير بمن به جِنّة في خمسة مواضع 14 .
وهذا من باب المجاراة في الاستعمال15 ـ كما نبّهنا ـ حيث كان التفاهم بلسان القوم . وليس عن اعتراف بمنشأ هذه التسمية اللغوية . ولا يزال الأطبّاء المعالجون ـ قديماً وحديثا ًـ يعبّرون عن المصاب بهذا الداء بالمجنون وعن نفس الداء بالجنون، مجاراةً مع لغة العامّة، ولا يعني ذلك اعتقادهم بمسّ الجنّ إيّاه حتميّاً . وتلك دور المجانين معدّة لمعالجة المصابين بهذا الداء أو للحراسة عنهم مرسوم عليها نفس العنوان و ليس إلاّ لأجل التفاهم مع العرف الدارج لا غير .
وأمّا قوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ... ﴾ 16 فالمراد من المساس هنا هو مسّ وساوسه الخبيثة المغرية، والتي هي عبارة عن استحواذه على عقلية أهل المطامع ليتيه بهم الدرب ويجعلهم في السعي وراء مطامعهم يتخبّطون خبط عشواء وفي غياهب غيّهم يعمهون . وهذا إنّما يعني استيلاء الشيطان على شراشر وجودهم فعموا وصمّوا ﴿ ... كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ ... ﴾ 17 . ﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ 18 .
قال تعالى ـ حكاية عن نبيّ الله أيّوب (عليه السَّلام) ـ : ﴿ ... إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴾ 19 . أي مسّني ضرّ وساوسه دسائسه الخبيثة في سبيل إيقاع أولياء الله في النصب ومكابدة الآلام، كما في قوله : ﴿ ... إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ 20 . فمسُّ الشيطان هو مسّ ضرّه على أثر دسائسه الخبيثة ، لا الإضرار مباشرةً 21 .
• 1. جاء التعبير بالجنّ في 22 موضعاً . و الجانّ ( جمع الجنّ ) في 7 مواضع . و الجِنّة في 5 مواضع .
• 2. القران الكريم : سورة الرحمن ( 55 ) ، الآية : 15 ، الصفحة : 531 .
• 3. القران الكريم : سورة الذاريات ( 51 ) ، الآية : 56 ، الصفحة : 523 .
• 4. سورة الكهف ( 18 ) ، الآية : 50 .
• 5. سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 34 .
• 6. راجع في ذلك : التفسير الكبير : 7 / 88 .
• 7. a. b. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 112 ، الصفحة : 142 .
• 8. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 121 ، الصفحة : 143 .
• 9. القران الكريم : سورة إبراهيم ( 14 ) ، الآية : 22 ، الصفحة : 258 .
• 10. التفسير الكبير : 30 / 148 .
• 11. دائرة المعارف الإسلامية : 7 / 113 .
• 12. راجع ماكتبه الشأن في تفسير المنار : 1 / 267 ـ 273 ، و 3 / 96 . و راجع أيضاً : الميزان ، للسيد الطباطبائي : 2 / 433 ـ 439 .
• 13. سورة الحجر ( 15 ) ، الآية : 6 ؛ سورة الشعراء ( 26 ) ، الآية : 27 ؛ سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 36 ؛ سورة الدخان ( 44 ) ، الآية : 14 ، سورة الذاريات ( 51 ) ، الآية : 39 ؛ سورة الطور ( 52 ) ، الآية : 29 ؛ سورة القمر ( 54 ) ، الآية : 9 ؛ سورة القلم ( 68 ) ، الآية : 2 و 51 ؛ سورة التكوير ( 81 ) ، الآية : 22 .
• 14. سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 184؛ سورة المؤمنون ( 23 ) ، الآية : 25؛ سورة سبإ ( 34 ) ، الآية : 8 و 46 .
• 15. أي تُسمّونه بهذا الإسم . أو تَسِمُونه بهذه السِمة في استعمالكم المتعارف عندكم .
• 16. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 275 ، الصفحة : 47 .
• 17. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 71 ، الصفحة : 136 .
• 18. القران الكريم : سورة المجادلة ( 58 ) ، الآية : 19 ، الصفحة : 544 .
• 19. القران الكريم : سورة صاد ( 38 ) ، الآية : 41 ، الصفحة : 455 .
• 20. القران الكريم : سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 83 ، الصفحة : 329 .
• 21. راجع : التفسير الكبير : 7 / 89 ؛ و الميزان : 2 / 436 .
الشيخ عبدالهادي الفضلي
السيد محمد باقر الصدر
الأستاذ عبد الوهاب حسين
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
محمود حيدر
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
مقدّمات البحث
تأبين الشّيخ الحبيل للكاتب الشّيخ عباس البريهي
حاجتنا إلى النظام الإسلامي خاصّة
القرآن يأسر القلب والعقل
الشيخ عبدالكريم الحبيل: القلب السليم في القرآن الكريم (3)
تقييم العلمانية في العالم الإسلامي
ضرورة الإمامة
دلالة آية «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ»
العلاقة الجدلية بين التدين والفهم
الأجر الأخروي: غاية المجتمع