الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
قال الله تعالى في الآية 125 من سورة البقرة: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ البقرة:125.
تناولت هذه الآية موضوع عظَمة الكعبة التي وضع قواعدها إبراهيم عليه السلام، فهي تبدأ بالتذكير بعبارة «وإذ»، أي اذكروا: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا..﴾.
و«المَثابة» من الثوب، أي عودة الشيء إلى حالته الأولى. ولمّا كانت الكعبة مركزاً يتّجه إليه الموحّدون كلّ عام، فهي محلٌّ لعودة جسمية وروحية إلى التوحيد والفطرة الأولى، ومن هنا كانت مثابةً. وكلمة «مثابة» تتضمّن معنى الراحة والاستقرار، لأنّ بيت الإنسان - وهو محلّ عودته الدائم - مكانٌ للراحة والاستقرار، وهذا المعنى تؤكّده كلمة «أمناً» التي تلي كلمة «مثابة» في الآية.
وكلمة «للناس» توضح أنّه ملجأ عام لكلّ العالمين، ولكلّ الشعوب المحرومة. وهذه الصفة للبيت هي في الحقيقة استجابة لأحد مطالب إبراهيم عليه السلام من ربّه سبحانه، كما سيأتي.
* ثمّ تضيف الآية: ﴿..وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى..﴾.
اختلف المفسرون في معنى «مقام إبراهيم». قيل: إنّ كلّ الحجّ هو مقام إبراهيم. وقيل: إنّه «عرفة»، و«المشعر الحرام»، و«الجمار الثلاث»، وقيل: «كلّ حرَم مكّة مقام».
ولكن يبدو من ظاهر الآية أنّ المقام هو «مقام إبراهيم» المعروف الكائن قرب الكعبة، وذهبت إلى ذلك الروايات وكثير من المفسّرين. وعلى الحجّاج أن يصلّوا خلفه بعد الطواف، ومن هنا كان هذا المقام «مُصلّى».
* ثمّ تشير الآية إلى المسؤولية المعهودة إلى إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، بشأن تطهير البيت للطائفين والمجاورين والمصلّين: ﴿..وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾.
وفي «التطهير» قيل: إنّه التطهير من لَوثة وجود الأصنام. وقيل: إنّه التطهير من الدنَس الظاهر، كالدم وأحشاء الذبائح التي كان يُلقي بها الجهلة في البيت. وقيل: إنّه يعني إخلاص النيّة عند بناء البيت.
ولا دليلَ على تحديد مفهوم الطهارة، فهي تعني تطهير هذا البيت ظاهرياً ومعنوياً من كلّ تلويث. لذلك نجد أنّ بعض الروايات فسّرت «التطهير» في الآية بأنّه تطهير الكعبة من المشركين، وبعضها بأنّه تطهير البدن وإزالة الأدران.
الآثار الاجتماعية والتربوية للبيت الآمن
الكعبة - طبقاً للآية أعلاه - ملاذٌ وبيتٌ آمن، والإسلام وضع الأحكام المشدّدة بشأن إبعاد هذه الأرض المقدّسة عن كلّ نزاعٍ، واشتباكٍ، وحربٍ، وإراقة دماء. وليس أفراد البشر آمنين هناك فحسب، بل الحيوانات والطيور آمنة أيضاً في هذه البقعة، ولا يحقّ لأحدٍ أن يمسّها بسوء.
وفي عالمٍ يعجّ دوماً بالنزاع والصراع، يستطيع مثل هذا المركز الآمن أن يكون له الأثر العميق في حلّ المشاكل وفضّ النزاعات، إذ يستطيع الفرقاء المتنازعون أن يجلسوا حول طاولة واحدة عند هذا البيت الآمن، ويفتحوا بينهم حواراً قد يكون مقدّمةً لإزالة الخصومات والنزاعات.
وقد يتّفق أن ترغب الأطراف المتنازعة في إجراء مباحثات، لكنهم لا يتفقون على مكان مقبول ومحترم وآمن لدى جميع الأطراف، والإسلام أقرّ مكّة لتكون مركزاً كهذا.
واليوم، إذ المسلمون - مع الأسف الشديد - يعانون من ألوان النزاعات والاختلافات، حريٌّ بهم أن يستفيدوا من قداسة هذا البيت وأمنه لفتح باب المحادثات بينهم، ولرفع ما بينهم من اختلافات بفضل معنوية هذا المكان المقدّس.
بيتُ الله تعالى
وُصفت الكعبة بأنّها بيت الله، وعبّرت الآية عن الكعبة ب«بيتي». وواضحٌ أنّ الله تعالى ليس بجسم، ولا يحدّه بيت، ولا يحتاج إلى ذلك، وهذه الإضافة هي «إضافة تشريفية» تبيّن قدسية الشيء الذي يُنسب إلى الله عزّ وجلّ، ولذلك كان شهر رمضان «شهر الله»، وكانت الكعبة «بيت الله».
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾البقرة:126.
في هذه الآية توجّه النبيّ إبراهيم عليه السلام إلى ربّه سبحانه بطلبَين هامَّين لسَكَنة هذه الأرض المقدسة، أشرنا إلى أحدهما في الآية السابقة. القرآن يذكّر بما قاله إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا..﴾.
وكما ذكرنا في الآية السابقة، استجاب الله لدعاء إبراهيم، وجعل هذه الأرض المقدّسة مركزاً آمناً بالمعنى الواسع لكلمة لأمن.
والطلب الآخر هو: ﴿..وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ..﴾.
وهكذا يطلب إبراهيم «الأمن» أولاً، ثمّ «المواهب الاقتصادية»، إشارةً إلى أنّ الاقتصاد السالم لا يتحقّق إلّا بعد الأمن الكامل.
وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الثمرات»، ويبدو أنّ معناها واسع يشمل النِّعم المادية، والنِّعم المعنوية. وعن الإمام الصادق عليه السلام: «هي ثمراتُ القلوب»، إشارةً إلى جعل قلوب الناس تهوي إلى هذه الأرض.
اقتصر النبيّ إبراهيم عليه السلام، في دعائه على المؤمنين بالله واليوم الآخر، ولعلّ ذلك كان بعد أن قال له الله سبحانه: ﴿..لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ البقرة:124، ففَهم أنّ مجموعة من ذريّته سيسلكون طريق الشرك والظلم، فاستثناهم من دعائه.
والله سبحانه استجاب لإبراهيم عليه السلام طلبه الثاني أيضاً، ولكنّه قال: ﴿..وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ في الحياة الآخرة.
هذه في الواقع صفة «الرحمانية»، وهي الرحمة العامّة للباري تعالى التي تشمل كلّ المخلوقات، صالحِهم وطالحهم في الدنيا. أمّا الآخرة فهي عالم رحمته الخاصّة التي لا ينالها إلا مَن آمن وعمل صالحاً.
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ البقرة:127-129.
نفهم بوضوح من خلال آيات الذكر الحكيم أنّ بيت الكعبة كان موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام، وكان قائماً منذ زمن آدم عليه السلام. يقول الله تعالى مخبراً عن النبيّ إبراهيم: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ..﴾ إبراهيم:37.
وهذه الآية تدلّ على أنّ بيت الكعبة كان له نوعٌ من الوجود، حين جاء إبراهيم عليه السلام مع زوجه وابنه الرضيع إلى مكة.
وفي الآية 96 من سورة (آل عمران): ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا..﴾. ومن المؤكّد أنّ عبادة الله وإقامة أماكن العبادة لم تبدأ في زمن إبراهيم عليه السلام، بل كانتا منذ أن خُلق الإنسان على ظهر هذه الأرض.
وتعبير الآية الأولى من الآيات محلّ البحث يؤكّد هذا المعنى، إذ تقول: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. فإبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت التي كانت موجودة.
وفي خطبة للإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في (نهج البلاغة)، وهي المسمّاة بـ«القاصعة»، يقول: «ألَا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُه اخْتَبَرَ الأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنِ آدَمَ إِلَى الآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ... فَجَعَلَهَا بَيْتَه الْحَرَامَ... ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ووُلْدَه أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَه (أي أن يطوفوا حوله)..».
والقرائن القرآنية والروائية تؤيّد أنّ الكعبة بُنيت أولاً بيد آدم، ثمّ انهدمت في طوفان نوح، ثمّ أُعيد بناؤها على يد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام.
في الآيتين التاليتين يتضرّع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامّة. وهذه الطلبات المقدّسة حين الاشتغال بإعادة بناء الكعبة جامعة ودقيقة، بحيث تشمل كلّ احتياجات الإنسان المادية والمعنوية، وتُفصح عن عظمة هذين النبيَّين الكبيرَين.
- قالا أولاً: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ..﴾.
- ثمّ أضافا: ﴿..وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ..﴾.
- وطلبا تفهّم طريق العبادة: ﴿..وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا..﴾، ليعبدا الله حقّ عبادته.
- ثمّ طلبا التوبة: ﴿..وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾.
- أما الآية الأخيرة فقد تضمّنت الطلب الخامس، وهو هداية الذريّة: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
السيد محمد باقر الحكيم
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عبد الوهّاب أبو زيد
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان