قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد جواد البلاغي
عن الكاتب :
الشيخ محمد جواد البلاغي، ولد في النجف الأشرف وفيها توفي ودفن، أفنى عمره في طلب العلم ، والتأليف والتصنيف ، والإجابة على مختلف الإشكالات

إعجاز القرآن (٣)

 

الشيخ محمد جواد البلاغي قدس سره ..

إعجازه من وجهة الاستقامة والسلامة من الاختلاف والتناقض:

خاض القرآن الكريم في فنون المعارف مما يتخصص به النخب في الفلسفة والسياسة والخطابة والإصلاح واللاهوت والأخلاق والتشريع المدني والتنظيم الإداري وفنون الحرب.

وجرى في ذلك بأحسن أسلوب وأقوم منهج، وبلغ في جميع ذلك أكرم الغايات، مكرراً الكثير من قصصه ومقاصده، دون أن تشينه زلة اختلاف ولا عثرة تناقض، ولا اضطراب ولا فساد مضمون ولا سخافة بيان.

 

وقد بارز جميع العالم بأبهة الافتخار:

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.

فهل يمكن في العادة لبشر في هكذا عصر وبلد وقوم أن يأتي بكل هذا ؟!

ولك العبرة بالعهدين التي يصفق لها العالم وينسبونها إلى كرامة الوحي، وكم فيها من الوهن والسقوط والاختلاف والتناقض.

واعتبر أن كل واحد من الأناجيل لا يزيد على صحيفة أسبوعية وقد كثُر فيها الخبط والتناقض والاختلاف إلى حد مهول مدهش.

هذا والعهد الجديد مؤسس على صحة العهد القديم مع ما بينهما من اختلاف وتناقض.

 

إعجازه من وجهة التشريع العادل ونظام المدنية:

هل يمكن في العادة لبشر عادي في هكذا عصر وبلاد وقوم أن يأتي من عنده بمثل ما أتى به القرآن الكريم من شريعة حقوقية عادلة، وأنظمة معقولة في صالح البشر في المدنية والاجتماع والسياسة والحرب. اعتنت بالإدارة العائلية والبيتية والزوجية حتى شؤون الكاتب والشاهد.

وتزداد بصيرة إذا نظرت إلى شرائع التوراة الرائجة من تقديس هارون وبنيه وتفصيل ثيابهم، وشريعة امرأة الأخ الميت وتفلتها، وولدها البكر من الأخ الثاني، وشريعة من ادعى زوجها أنه لم يجد لها عذرة، وشريعة قتل الأطفال والنساء من البلاد المفتوحة بالحرب ، فإنك تعرف أن هذه الشرائع لا تكون إلا من بشر سخيف قاس. فتزداد بصيرة بمجد القرآن الكريم في تشريعه، وأنه لا يكون إلا بوحي إلهي.

وانظر إلى العهد الجديد وإلغائه لنظام المدنية، بحيث ترك العالم بلا نظام رادع ولا شريعة تأديب عادلة، فإنك تزداد بصيرة أن المتقول على الوحي في أمر التشريع، لا بد له من أن يسقط سقطة تشوه التاريخ.

 

إعجازه من وجهة الأخلاق:

إن ظلمات العصر والقطر والتربية وشيوع الجهل لها أثر كبير في الانحراف عن الأخلاق الفاضلة، والخبط في معرفتها وتمييز حدودها.

وإن حاول المصلح تهذيب الأخلاق لم يهتد إلا إلى ما يتداوله جملة من الناس .

ولئن تكلف المتفلسف شيئاً من التعليم بالأخلاق خبط فيها خبطاً غلب فيه الجهل والزلل وتتابعت العثرات.

بين تلك الظلمات بزغ القرآن الكريم مستقصياً للأخلاق الفاضلة على حدودها، بالحث على التزين بها بما توجبه الحكمة من البعث والترغيب، ومحصياً للأخلاق الرذيلة بالزجر عن التلوث بها بما يوجبه الإصلاح من الإرهاب والتنفير، فأقام للعالم أشرف مدرسة وأعلى فلسفة، وأبلغ خطابة.

 

ومن جوامعه قوله تعالى :

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .

إضافة إلى ما ورد في سور الفرقان والمعارج والحجرات وغيرها، دون تجاوز بالإفراط إلى التفريط، أو إخلال بالمدنية.

ولك العبرة بأن التوراة الرائجة فيها وشل من تعاليم التوراة الحقيقية، ولكن التلفيق بشري، ذهب بصفاء التعليم الإلهي، فأمرت بني إسرائيل بالحكم بالعدل لقريبهم، ونهتهم عن الحقد على أبناء شعبهم، وعن السعي بالوشاية وشهادة الزور على قريبهم، وأن يغدر أحدهم بصاحبه.

فشوهت جمال الأمر والنهي بتخصيص تعليمها لبني إسرائيل وبتخصيص المأمور به والمنهي عنه بالقريب والشعب والصاحب.

ولك العبرة بأن الأناجيل الرائجة قد أفرطت بتصوفها البارد، فنهت عن ردع الظالمين بالانتصاف، وقطع مادة الفساد بالحدود الشرعية. بل علّمت: أن من لطمة على خدك الأيمن فأدر له الآخر.

ومن أراد أن يخاصمك على الثوب فاترك له الرداء. فلوثت بإفراطها البشري قدس تعاليم المسيح.

 

إعجازه من وجهة علم الغيب:

تقرر في القرآن الكريم معجزة إخباره بالغيب إخباراً يخالف مقتضى التكهن والفراسة في الحاضر من جهة ضعف الدعوة وطغيان الشرك .

فمن ذلك قوله تعالى:

هو الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.

ومنها إخباره بغلبة الروم قبل مضي عشر سنين من انتصار الفرس:

غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ .

ومنه إخباره بموت أبي لهب وزوجته على الكفر:

سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥).

 

ولك العبرة أن إنجيل متى ذكر إخباراً واحداً غيبياً للمسيح، وهو أنه يبقى مدفوناً في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، ولكن ما برح إنجيل متى أن كذّب في أواخره هذا الإخبار، فوافق الأناجيل الثلاثة على أن بعض الناس طلبوا جثة المسيح من بيلاطس مساء ليلة السبت فأنزلها عن الصليب وكفنها ودفنها، وقبل فجر الأحد قام من الموت وخرج من قبره.  فيكون المسيح قد بقي في القبر نهار وليلتان.

وهب أن الوساوس تتقحم على الحقائق وتغالط الأذهان بواهيات الشكوك في بعض وجهات الإعجاز، ولكن هل يمكن ذلك بالنظر إلى مجموعها؟ وهل يسوغ لذي شعور أن يختلج في ذهنه الشك في إعجاز كتاب جامع لهذه الكرامات الباهرة.

(من مقدمة تفسير آلاء الرحمن)

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد