قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد حسين الطبطبائي
عن الكاتب :
مفسر للقرآن،علامة، فيلسوف عارف، مفكر عظيم

السبب في اشتمال القرآن على المتشابه

هناك وجوه ثلاثة:

 

الأوّل: أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولًا واضحًا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر اللّه تعالى والتسليم لرسله.

 

وفيه: أن الخضوع هو نوع انفعال وتأثر من الضعيف في مقابل القوي والإنسان إنما يخضع لمن يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته وبهورة الإدراك كقدرة اللّه غير المتناهية وعظمته غير المتناهية وسائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها، وأما الأمور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر ويغادر باعتقاد أنه يدركها فما معنى خضوعه لها؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها وهو لا يعقل.

 

الثاني: أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث والتنقير لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.

 

وفيه: أن اللّه تعالى أمر الناس بإعمال العقل والفكر في الآيات الآفاقية والأنفسية إجمالًا في موارد من كلامه، وتفصيلًا في موارد أخرى كخلق السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب والإنسان واختلاف ألسنته وألوانه، وندب إلى التعقل والتفكر والسير في الأرض والنظر في أحوال الماضين، وحرض على العقل والفكر، ومدح العلم بأبلغ المدح وفي ذلك غنى عن البحث في أمور ليس إلّا مزالق للأقدام ومصارع للأفهام.

 

الثالث: أن الأنبياء بعثوا إلى الناس وفيهم العامة والخاصة، والذكي والبليد والعالم والجاهل، وكان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته وتشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث تفهمها الخاصة ولو بطريق الكناية والتعريض ويؤمر العامة فيها بالتسليم وتفويض الأمر إلى اللّه تعالى.

 

وفيه: أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها، ولازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما تكشف عنه المحكمات، وعند ذلك يبقى السؤال (وهو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب ولا حاجة إليها مع وجود المحكمات) على حاله، ومنشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متباينين: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة والخاصة وهي مداليل المحكمات، ومعان سنخها بحيث لا يتلقاها إلّا الخاصة من المعارف العالية والحكم الدقيقة، فصارت بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات، وذلك مخالف لمنطق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضًا وغير ذلك.

 

والذي ينبغي أن يقال: إن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناشئ عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضًا... ويتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني والتعليم الإلهي والأمور التي بنيت عليها معارفه والغرض الأقصى من ذلك وهي أمور:

 

منها: أن اللّه سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلًا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية والأحكام والقوانين وسائر ما يتضمنه التعليم الإلهي، وأن هذا التأويل الذي تستقبله وتتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر تقصر عن نيله الأفهام وتسقط دون الارتقاء إليه العقول إلّا نفوس طهرهم اللّه وأزال عنهم الرجس، فإن لهم خاصة أن يمسوه. وهذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء ومفتاحه التطهير الإلهي، وقد قال تعالى: (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) «1»، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.

 

وهذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلّا أفراد خاصة، وإن كانت الدعوة متعلقة بالجميع متوجهة إلى الكل، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة وبعض التطهير في آخرين، ويختلف ذلك باختلاف درجات الناس، كما أن الإسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل. قال تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) «2» ولكن لا يحصل كماله إلّا في أفراد وفيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم وأفهامهم، وهكذا جميع الكمالات الاجتماع من حيث التربية والدعوة، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم والصنعة والثروة والراحة وغيرها لكن لا ينالها إلّا البعض، ومن دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات. وبالحقيقة أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.

 

ومنها: أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم والعمل:

 

أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدأ والمعاد وما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبط به من الواقعيات معرفة حقيقية. وأما في ناحية العمل فبتحميل قوانين اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حياته الاجتماعية، ولا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم والعرفان، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها والمزاولة عليها توجه نفسه، وخلوص قلبه إلى المبدأ والمعاد، وإشرافه على عالم المعنى والطهارة والتجنب عن قذارة الماديات وثقلها.

 

وأنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) «3»، وضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى: (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)، وإلى قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) «4»، وقوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) «5»، وما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين وهداية الإنسان إليه، والسبيل الذي سلكه لذلك فافهم.

 

ومنها: أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس وركوز العلم بينهم ما استطيع، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة وكيف لا؟ ولا يوجد بين كتب الوحي كتاب، ولا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم ويحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن والإسلام!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) المائدة - 6.

(1) آل عمران - 102.

(2) فاطر - 10.

(3) المائدة - 105.

(1) المجادلة - 11.

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد