إن أرقى التشبيهات في البيان العربي هي تلك التشبيهات التي وردت في القرآن الكريم، وكان هذا الموضوع قد بحث قديمًا وحديثًا في أشتات متناثرة من مختلف الدراسات القرآنية حتى إنك لا تجد كتابًا بلاغيًّا ولا مبحثًا قرآنيًّا ولا مصنفًا في مجازات القرآن يخلو من الإشارة إليه، وقد أفرده بالتصنيف الجيد الممتاز ابن ناقيا البغدادي (ت:485 ه) في كتابه القيم (الجمان في تشبيهات القرآن) «1». ولعله أول من خصص كتابًا لتشبيهات القرآن بهذا المستوى من الضبط والسعة، إذ تتبع فيه ظاهرة التشبيه القرآني في ست وثلاثين سورة من القرآن، واستخرج من كل سورة آيات التشبيه وأشار إليه، وحقق في معنى الآية، وعلاقة التشبيه ووجوهه بما يعد بحق نموذجًا راقيًا بالنسبة لعصره في استيعاب مظاهر التشبيه القرآني.
ولا بد لنا من رصد هذه الظاهرة القرآنية لموقعها المتميز، من غير استقصاء لأبعادها، فهذا متعذر مع هذا البحث المختصر، وإنما من بعدها النفسي ومسايرتها للكون ومظاهره فحسب، إذ سبق لنا أن سلطنا الضوء على هذا الملحظ في عمل أكاديمي مستقل والذي يستوقفنا فيهدينا من تشبيهات القرآن الكريم، غورها في أعماق النفس الإنسانية، وسبرها لمظاهر الكون والطبيعة، واستقطابها لملامح الحس والإدراك البصري والسمعي، وسبك ذلك كله في صياغة موحدة تنظر إلى هداية الإنسان، وتهيئة ذهنه، بما يحس أمامه وبين يديه، وما يدركه واعيًا في حياته العامة، وبهذا نرى التشبيهات القرآنية ذات قدرة فائقة، ولمحات جديدة؛ تلك القدرة وهذه اللمحات قد استوعبا في نماذج كثيرة، مظاهر الكون والحياة، وعوالم الطبيعة، وهبات المناخ في خضم مشاهد الدنيا.
وفي هذا الضوء نلمس التشبيه القرآني ذا صورة دائبة بالحركة والاستثارة والتلوين، هذه الصور قد هدفت - بضم بعضها إلى البعض الآخر - تقريب الأشياء، وإبراز الحقائق، واستخلاص العظات والبينات فيما تنبته الأرض، وما يهبط عليها من السماء، وفيما تتقاذفه الرياح، وفيما يطرأ عليها من تقلبات المناخ وتصريف الأجواء، وما يصاحب ذلك من نور وظلام، ورعد وبرق، وليل ونهار، وموج ولجج وسحاب وضباب، وأصداء وأصوات، وما تثير هذه العوالم مجتمعة أو متفرقة من رعب أو أمن واستقرار «2».
1 - هذا المظهر الطبيعي يرصفه القرآن الكريم في تشبيه حالة المنافقين تارة، وحالة الكافرين وأعمالهم تارة أخرى، فالأول قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ - صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ - أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ - يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) «3».
والثاني يصوره قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ - أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). «4».
أرأيت كيف استوضحت حالة المنافق في هذه التشبيهات المركبة، مصورًا أزمته النفسية في الاضطراب ومعاودة الخوف من هذه الظواهر التي يتوقع فيها هلاكه، ومعبرًا عن أمر الحيرة المقلقة له بخطف البرق للأبصار، وتردده بين الأحجام والأقدام، ووقوفه القاتل أو السير بلا هدى فهو بين مصير مجهول وتذبذب معلوم.
هذا في النموذج الأول، أما في النموذج الثاني، فنرى التشبيه المركب مادة فنية خصبة تسيغها أفهام القوم، فالبدوي الذي يتطلب الماء، فإن أخفق في تحصيله أخفق في حياته وعاد يائسًا، وهو في قيظ لا يرحم، وظمأ لا يهدأ، فسكرات الموت حينئذ أقرب إليه من حبل الوريد، وأعمال الكافرين صورة لمتطلب الماء ثم لا يجده، ومثال للسراب الذي يشتد نحوه الظمآن فيفاجأ به وهو يظنه ماء يروي غلته، وإذا به يذهل لفقدان الماء ووجدان اللّه بالمرصاد، وهي مفاجأة أخرى ليست في الحسبان، وحينما يخفق من هذا الالتماع الخلب في السراب الذي حسبه ماء تصدمه الظلمات المتراكبة في بحر شديد الأمواج متراكمها، يعلوه سحاب، فتتكون بذلك طبقات من هذه الفوقيات: الموج فوقه موج من فوقه سحاب، فهو في ظلمات يفقد معها حاستي السمع والبصر، كما فقد حاسة البصيرة من ذي قبل.
2 - وبالإضافة إلى التشبيه بالظواهر الطبيعية، والسنن الكونية، عمد القرآن إلى الكائنات الحية من الحيوانات فوجد فيها ملاءمة لضرب الأمثال وتصوير الأحداث، وصدق التشبيه، ومسايرة الواقع المعاصر في الحال والاستقبال، فاختار أوهنها: لتشبيه ضعف العبادة ووهنها، وهو العنكبوت، وأغباها: لمن يحمل العلم ولا ينتفع به، وهو الحمار، وأضعفها: لمن حالفه العجز والاستحالة وهو الذباب. وأتعبها: لمن يشتد لهاثه لا إلى غاية مجدية معينة، وهو الكلب. وأصغرها لمن يستنكر ضرب الأمثال بالمخلوقات الضعيفة، وهو البعوض. وهكذا.
وتأتي هذه الكائنات في الاستعمال التشبيهي متقاطرة، ويبرز عملها متناسقًا مع التصوير الفني لحقائق الأشياء، وطبيعة الموصوفات، وأوجه الشبه المناسبة، بما يحقق الجانب البلاغي في مطابقة الكلام لمقتضى الحال....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): رسالتنا للدكتوراه، الصورة الفنية في المثل القرآني: 166 - 197.
(2): المؤلف، الصورة الفنية في المثل القرآني: 187.
(3) البقرة: 17 - 20.
(4) النور: 39 - 40.
السيد محمد باقر الصدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد الريشهري
السيد محمد حسين الطهراني
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ باقر القرشي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان