قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد هادي معرفة
عن الكاتب :
ولد عام 1348هـ بمدينة كربلاء المقدّسة، بعد إتمامه دراسته للمرحلة الابتدائية دخل الحوزة العلمية بمدينة كربلاء، فدرس فيها المقدّمات والسطوح. وعلم الأدب والمنطق والعلوم الفلكية والرياضية على بعض أساتذة الحوزة العلمية، عام 1380هـ هاجر إلى مدينة النجف الأشرف لإتمام دراسته الحوزوية فحضر عند بعض كبار علمائها كالسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، ثم سافر إلى مدينة قم المقدسة والتحق بالحوزة العلمية هناك وحضر درس الميرزا هاشم الآملي. من مؤلفاته: التمهيد في علوم القرآن، التفسير والمفسِّرون، صيانة القرآن من التحريف، حقوق المرأة في الإسلام.. توفّي في اليوم التاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام من عام 1427هـ بمدينة قم المقدّسة، ودفن بجوار مرقد السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام

الرّوح في المصطلح القرآني (2)

بالإسناد إلى سيف بن عميرة عن أبي بصير عن الإمام أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)، قال: «من قدرتي». أي الروح المنفوخة في آدم أيضًا مخلوقة بقدرتي وواقعة في قبضتي والنسبة إليه تعالى تشريف، وإلّا فكلّ ما في الوجود مخلوق للّه وواقع تحت قدرته تعالى... فذلك نظير قوله تعالى: (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) «1» أي كان تحت عنايتنا الخاصّة.

 

ورجّح جمهور المفسّرين أن يكون السؤال عن الروح بهذا المعنى وهي الروح التي بها حياة الإنسان وبها تكون حقيقته وأصله وهي التي اختلفت أنظار الفلاسفة منذ القديم في معرفة حقيقتها وبما أنّها حقيقة ملكوتيّة، كانت الأنظار الماديّة قاصرة عن إدراكها وعن تعقّلها كما هي! «2»

 

ويتأيّد ذلك ما ورد أنّ الباعث لقريش في سؤالهم هذا، هم اليهود، سألتهم قريش أن يعرّفوهم شيئًا يسألون عنه محمّدًا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ليستخبروا حاله، أهو نبيّ كما يقول، أم يدّعي أمرًا لا ينبغي له؟! فأوعز إليهم اليهود أن يسألوه عن الروح، وهم يعلمون أنّه من مشاكل المسائل التي عطبت فيها أفهام فطاحل الحكماء.

 

روى محمّد بن إسحاق بإسناده إلى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عبّاس قال: إنّ قريشًا بعثت النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط إلى يثرب، ليسألا أحبار اليهود عن أخبار نبيّ ظهر بينهم، فهل يجدون صفته عندهم؟ فخرجا حتّى قدما المدينة وسألا الأحبار عن شأن محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.

 

فقال لهما الأحبار: سلوه عن ثلاث مسائل: عن الفتية أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح حتّى يظهر لكم صدق نبوّته.

 

فقدما مكّة وعرضت قريش الأسئلة عليه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. فسألوه عن ذي القرنين، فجاء الوحي: (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) «3». وهكذا ذكر تعالى قصّة أصحاب الكهف مع شيء من التفصيل «4». وأما السؤال عن الروح فجاء في سورة الإسراء، مع الإجمال في الجواب، حيث لا مجال حينذاك ولا مقتضى للتفصيل والبيان، بعد قصور أفهام العرب عن إدراك هكذا مسائل مستعصية.

 

قال سيّد قطب: وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل. ولكن فيه توجيها لهذا العقل أن يعمل في حدوده وفي مجاله الّذي يدركه. فلا جدوى في الخبط في التيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه، لأنّه لا يملك وسائل إدراكه «5».

 

قلت: الجواب واف شاف، وليس إقناعيًّا محضًا وتملّصًا عن الجواب الصريح - كما زعم - بل الحقيقة هي: أنّ الروح الإنسانيّة هي من سنخ الملكوت الأعلى «هبطت إليك من المكان الأرفع».

 

فإذ لم يكن باستطاعة مدركات الإنسان أن تدرك ما وراء عالم الحسّ والشهود، إذ ما لديه من وسائل الإدراك إنّما خصّت بما يسانخها من مدركات، فلا مجال لفهم ما سواها سوى الإذعان بوجودها وأنّها من عالم أعلا ومن أمر اللّه. أي شأنه شأن سائر المغيّبات وراء عالم الملكوت.

 

والسورة السادسة - الّتي جاء فيها ذكر الروح - هي سورة الحجر المكيّة «6». وآيتها عين آية سورة «ص» «7» - وكانت ثانية السور في ذلك - وهي قوله تعالى: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

 

والسابعة سورة غافر «8»: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). والثامنة سورة الشورى «9»: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا). والتاسعة سورة النحل «10»: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

 

والروح في هذه المواضع الثلاثة يراد به منهاج الشريعة الهادي إلى طريق الرشاد. وفيه الحياة والسعادة والهناء. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) «11».

 

والآية في سورة الشورى هكذا تبتدىء: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) «12».

 

وهكذا في السورتين الأخريين كان السياق فيهما سياق التبشير والإنذار. وفي سورة النحل أيضا قوله: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) يراد به جبرائيل رسول الوحي إلى الأنبياء عليهم السّلام وهو الروح الأمين الّذي نزل بالقرآن على قلب سيّد المرسلين «13».

 

والسورة العاشرة سورة الأنبياء «14»: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا). والآية بعينها تكرّرت في سورة مدنيّة: سورة التحريم: (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) «15». غير أنّ الموصول في سورة الأنبياء جاء عطفًا، وفي سورة التحريم وصفا.

 

أمّا اختلاف التأنيث والتذكير فتنوّع في الكلام تارة نظرًا إلى ذات الشيء، وأخرى إلى متعلّقه كقولك: نظرت إلى وجه هند فرأيتها جميلة أو فرأيته جميلًا. والروح هنا هو الروح في قوله تعالى: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) «16». فقد كان عيسى عليه السّلام روحا منه سبحانه ألقاه إلى مريم وشرّفها به وجعلها وابنها آية للعالمين «17».

 

والحادية عشرة سورة السجدة «18»: (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) مرادا به الروح الإنسانيّة المفاضة على الإنسان من ملكوت أعلا. كما مرّ الحديث عنه في سورة ص برقم 2. وسورة الحجر برقم 6.

 

والثانية عشرة سورة المعارج «19»: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ). وهذه الروح الصاعدة الرافعة ببركات الأرض، هي التي نزلت ببركات السماء ليلة القدر «20». فكان هذا العروج إيذانًا بنهاية الحياة على الأرض، للحشر على صعيد القيامة. وهي التي تقوم صفا مع الملائكة يوم الحساب تنتظر أمر الإله كما في السورة التالية: والثالثة عشرة سورة النبأ «21»: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً. ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً).

 

ذكر الشيخ أبو جعفر الطوسي: أنّ الروح النازل بالبركات ليلة القدر، والروح الصاعد بها إلى السماء، كلاهما في الموردين هو جبرائيل عليه السّلام «22» لأنّه الّذي ينزل بالروح من أمره على من يشاء من عباده «23» وأخيرًا يعرج به في نهاية المطاف. قاله بشأن الروح في قوله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا)... قال الضحّاك والشعبي: الروح هو جبرائيل عليه السّلام. وقال ابن مسعود وابن عبّاس: ملك من أعظم الملائكة خلقًا. قال الشيخ: وهو المرويّ في أخبارنا «24». قلت: إذا كان النازل بروح اللّه والصاعد به هو جبرائيل، فليكن المسؤول والشاهد على إقامته باستقامة أو انحراف في مسرح الحياة، شهادة صادقة يوم الحساب هو جبرائيل أيضًا الأمر الّذي تستدعيه المناسبة القريبة.

 

والقول بأنّه ملك من أعظم الملائكة لا ينافي كونه جبرائيل، لأنّه من أعظم الملائكة خلقًا وقربًا إليه تعالى. والأخبار التي أشار إليها الشيخ، لعلّها ناظرة إلى روح القدس الّذي يرافق الأنبياء والأئمّة وصالحي المؤمنين. وهي نفحة رحمانيّة، ذات قدسيّة ملكوتيّة «25»، جاءت تسدّد خطى الأولياء المقرّبين وتؤيّدهم وتهديهم حيث سبيل الصواب ولا شكّ أنّها ذات مراتب متصاعدة حسب ارتقائهم على مدارج الكمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) سورة ص 38 : 75.

(2) قال ابن عاشور: قال الجمهور: المسؤول عنه هو الروح الإنسانية، لأنّه الأمر المشكل الّذي لم تتّضح حقيقته. وأمّا الروح بمعنى الملك أو روح الشريعة فهما من المصطلح القرآني الحديث. وقد ثبت أنّ اليهود سألوا عن الروح بذاك المعنى، لأنّه الوارد في أوّل سفر التكوين من التوراة في الأصحاح الأوّل: «وروح اللّه يرفّ على وجه المياه» وليس الروح بالمعنيين الأخريين بوارد في كتبهم. (التحرير والتنوير 14 : 155).

(3) الكهف 18 : 83.

(4) الكهف 18 : 9 - 26 . رقم نزولها : 69.

(5) في ظلال القرآن 5 : 357.

(6) رقم نزولها : 54 . رقم ثبتها في المصحف : 15 . الآية : 29.

(7) رقم نزولها : 38 . رقم ثبتها في المصحف : 38 . الآية : 72.

(8) رقم نزولها بمكة : 60 . رقم ثبتها في المصحف : 40 . الآية : 15.

(9) رقم نزولها بمكة : 62 . رقم ثبتها في المصحف : 42 . الآية : 52.

(10) رقم نزولها بمكة : 70 . رقم ثبتها في المصحف : 16 . الآية : 2.

(11) الأنفال 8 : 28.

(12) الشورى 42 : 51 - 53.

(13) الشعراء 26 : 193.

(14) رقم نزولها بمكة : 73 . رقم ثبتها في المصحف : 21 . الآية : 91.

(15) التحريم 66 : 12 . رقم نزولها : 108.

(16) النساء 4 : 171 . رقم نزولها : 92.

(17) الأنبياء 21 : 91.

(18) رقم نزولها بمكة : 75 . رقم ثبتها في المصحف : 32 . الآية : 9.

(19) رقم نزولها بمكة : 79 . رقم ثبتها في المصحف : 70 . الآية : 4.

(20) ولعلّه إلى ذلك ينظر ما أخرجه الزبير بن بكّار في أخبار المدينة عن الحسن قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «من كلّمه روح القدس لن يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه». (الدرّ 1 : 213). والظاهر أنّ الضمير يرجع إلى نفسه الكريمة. فلا تأكل الأرض لحمه بعد الدفن. حيث وقايته بالكلمة الّتي ألقاها إليه روح القدس..

(21) رقم نزولها بمكة : 80 . رقم ثبتها في المصحف : 78 . الآية : 38 - 39.

(22) راجع : التبيان 10 : 386 بتفسير سورة القدر . و : 114 بتفسير سورة المعارج.

(23) النحل 16 : 2.

(24) التبيان 10 : 249.

(25) كما في رواية الصفار عن الصادق عليه السّلام . البصائر : 462 / 9.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد