النموذج الثاني: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}
قال تعالى في سورة الأنعام 151: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ...}.
وقال سبحانه تعالى في سورة الإسراء31: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}.
نجد في هاتين الآيتين تقاربًا في المعنى، ولكن هناك بعض الفوارق، مثلاً: في سورة الأنعام قال تعالى: {نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} حيث قدّم رزق الآباء على الأولاد، أما في سورة الإسراء فقال عزَّ وجلّ: {نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} حيث قدّم رزق الأولاد على الآباء، فما السر في ذلك؟
وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ}، بينما قال في سورة الإسراء: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}، أضف إلى ذلك أن الإملاق هو الفقر، فلماذا لم يقل سبحانه وتعالى "ولا تقتلوا أولادكم من فقر"؟، ولماذا قال تعالى في سورة الإسراء {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} ولم يقل "خوف إملاق"؟
يمكن الجواب: أن الآيتين وإن كانتا تتحدثان عن حرمة قتل الأولاد الذكور والإناث، إلا أن السبب في كل واحدة منها مختلف عن الآخر، وبعبارة أخرى: إن الدافع للقتل في سورة الأنعام غيره في سورة الإسراء، وهذا الاختلاف الذي سيتبين يقتضي تغيرًا في التعبير.
شرح الألفاظ
إملاق :
"(ملق) الميم واللام والقاف أصل صحيح يدل على تجرد في الشيء ولين، قال ابن السكيت: الملق من التملق وأصله التليين. والملقة الصفاة الملساء. ويقال: الإملاق إتلاف المال حتى يُحوِج، والقياس واحد كأنه تجرد عن المال"([20]).
"والإملاق: الافتقار. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ}... يقال: أملق الرجل فهو مملق، وأصل الإملاق الإنفاق. يقال: أملق ما معه إملاقًا، وملقه ملقًا إذا أخرجه من يده ولم يحبسه، والفقر تابع لذلك، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبَّب حتى صار به أشهر... والإملاق: كثرة إنفاق المال وتبذيره حتى يورث حاجة، وقد أملق وأملقه الله، وقيل: المملق الذي لا شيء له"([21]).
خشية :
"الخشية: خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خُصَّ العلماءُ بها في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}"([22]).
خوف:
"الخوف: توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، كما أن الرجاء والطمع توقع محبوب عن أمارة ظنية أو معلومة"([23]).
بعدما تبيّن من معنى هذه الالفاظ نأتي للجواب عن التساؤلات السابقة:
أولاً: إنما قدّم ذكر الآباء على الأولاد في سورة الأنعام {نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} لأن الخطاب موجّه للفقراء لا للأغنياء {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ...} أي لا تقتلوا أولادكم بسبب الفقر.
فهم فعلاً مبتلون بالفقر، وعمدوا لقتل أولادهم لعدم قدرتهم على تربيتهم حسب زعمهم، فناسب هنا أن يقدّم سبحانه تكفله برزقهم أولاً لفقرهم، ثم أتبعه بتكفّله برزق أولادهم.
أما في سورة الإسراء {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}، هنا الخطاب موجّه للأغنياء، والدليل على ذلك الآيات السابقة لهذه الآية، حيث يدور الكلام حول الإسراف والتبذير، قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}([24])، فإن الأغنياء يخشون أن يسلبهم أولادهم ما في أيديهم من مال، فلذلك يعمدون إلى قتلهم ووأدهم خوف الوقوع في الفقر، فناسب هنا تقديم الأولاد على الآباء ليبيّن الله لهم أن ما تخافون منهم هو بيد الله، فإن الأولاد رزقهم على الله لا عليكم، وكذلك رزقكم.
ثانيًا: قد ناسب في هذا السياق استعمال لفظة "الإملاق" دون "الفقر"؛ لأنّه سبحانه وتعالى قد تكفّل في الآيتين برزق الآباء والأبناء، فنجد في الآية الأولى قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وفي الآية الثانية قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}، وهذا يفيد ضمان الرزق بعد أن تكفّل به الحقّ سبحانه {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا}([25]).
ولما كانت الحاجة الضرورية ممتنعة بعد أن تكفّل الله سبحانه وتعالى بسدّها، فلا يُتصور الفقر إذن إلا من جهة سوء التصرف في الثروة وإن قلّت أو سوء توزيعها؛ أو من جهة بلاء وامتحان.
ومن هنا جاء استعمال لفظة "الإملاق" لأنّها تفيد إخراج ما في اليد من مال، أي أنّ الرزق موجود تكفّل به سبحانه، إلا أنّ صرفه وإنفاقه وتوزيعه وإن قلّ، يعود إلى الأبوين أو إلى النظام الذي وجدا فيه. فالفقر في حقيقته هو المسبّب والإملاق هو السبب. فيكون المعنى: لا تقتلوا أولادكم من فقر أو خشية فقر أنتم سببه (بسوء تصرف أو سوء توزيع)؛ لأننا تكفّلنا برزقكم وبرزق ما تلدون. والله أعلم.
ثالثًا: ويمكن أن يكون السبب في الاتيان بلفظ الخشية بدل الخوف، من أنّ الخشية -كما عرفت- خوف يشوبه تعظيم، إذ فوق توقعهم لمكروه الفقر ووقعه عظّموه، ودليل ذلك التعظيم هو قتلهم أولادهم، فناسب ذلك ذكر الخشية دون الخوف. (والله أعلم بأسرار كتابه).
النموذج الثالث: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} {حَقٌّ مَّعْلُومٌ}
قال تعالى في سورة الذاريات آية 19 : {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.
وقال تعالى في سورة المعارج 24-25: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، لماذا زاد سبحانه في سورة المعارج كلمة "معلوم" دون سورة الذاريات؟
يمكن الجواب: أنه بالتأمل في سياق الآيات السابقة في كل من هاتين الآيتين يتّضح الفرق، ففي سورة الذاريات الكلام حول المتقين، قال تعالى: {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}([26])، والمتقون أعلى درجة من المؤمنين، فإنهم ينفقون ما أوجبه الله عليهم مع زيادة، لذلك قال الله عنهم: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ}، ولكن هذا الحق ليس له حد معلوم.
وهذا بخلاف المصلّين الذين يدفعون ما فرض عليهم من الواجب من الزكاة والخمس والصدقات، قال تعالى في سورة المعارج: {إنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}([27]).
هوامش:
([20]) انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة (ملق).
([21]) انظر لسان العرب لابن منظور مادة (ملق).
([22]) انظر مفردات الفاظ القرآن للراغب الاصفهاني مادة (خشى).
([23]) انظر مفردات الفاظ القرآن للراغب الاصفهاني مادة (خوف)
([24]) سورة الإسراء آية 26-31
([25]) سورة هود 6
([26]) سورة الذاريات آية 15-19.
([27]) سورة المعارج آية 19-25.
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ حسين مظاهري
الشيخ عبدالهادي الفضلي
الشيخ محمد صنقور
السيد محمد باقر الصدر
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ محمد هادي معرفة
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
عبد الوهّاب أبو زيد
ناجي حرابة
فريد عبد الله النمر
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (2)
الإسلام وميول الإنسان
شروط البحث
الزهراء للإمام عليّ: اشتملت شملة الجنين (1)
التمثيل بالمحقَّرات في القرآن
الشّيخ صالح آل إبراهيم: ميثاقنا الزّوجي
اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا
المادة على ضوء الفيزياء
المعرض الفنّيّ التّشكيليّ (أبيض وأسود) بنسخته الثّالثة
القرآن وجاذبيّته العامة