قرآنيات

في رحاب العيد

الشيخ حسين المصطفى

 

العيد مناسبة للفرح الذي يتخفف فيه الإنسان من آلامه وأحزانه ليعطي لنفسه إجازة من بعض الألم ومن بعض الحزن، لأنّ الحياة بكل أحداثها وتطوراتها تخترق أمن الإنسان تارة وصحته أخرى وأوضاعه الاقتصادية..، وبذلك فإنه لن يعيش الفرح الكبير؛ لأنّه حتى إذا فرح فإنّ فرحه يبقى مجرد فرح ممزوج بالألم. ولذلك تناول القرآن في أكثر من آية ظاهرة الفرح عند الإنسان، أنه فرح خال من العمق والإحساس:

 

الفرح الطارئ:

 

{وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا}، وقد تكون الرحمة نعمة طارئة، وقد تكون الرحمة ربحاً محدوداً..

 

الفرح بمصائب الآخرين:

 

{وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} وقد لا يقتصر هذا على المشركين الذين كانوا يفرحون بما يصيب المسلمين من آلام ونكبات ومصائب، بل إنّ ذلك يمتد في الجانب الشخص ... وقد امتد ذلك إلى المذاهب الإسلامية، فكل أهل مذهب يفرحون بما يصيب أهل المذهب الآخر من نكبات ومشاكل وآلام.. وقد امتد ذلك حتى إلى بعض فصائل الحركات الإسلامية في صراعها اللإسلامي، عندما يفرح هذا الفصيل بما يصيب الآخر حتى من الظالمين، لأنهم يفكرون أنهم الإسلام وحدهم وأنّ غيرهم لا يمثلون من الإسلام شيئاً... بل وامتد ذلك حتى على مستوى حياة المؤمنين الفردية بين جماعية مرجعية ضد أخرى، أو جماعة شخص ضد آخر..

 

بينما نسي هؤلاء أنّ هذه الآية الكريمة تحدثت عن خلق المشركين فمن كان خلقه هذا الخلق بحيث يفرح بما يصيب المسلمين لاختلافه عنهم في مذهب، أو حركة، أو مرجعية، أو عرقية... فهو كالمشركين خلقاً وإن لم يكن كالمشركين عقيدة.

 

الفرح الخالي من المسؤولية:

 

{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} وهم الناس الذين يشغلهم الفرح عن أن يعيشوا المسؤولية بحيث يجعلهم يعيشون الأمل الطويل فينسون الموت وينسون الآخرة. فهو فرح يشغل الإنسان عن التفكير في العواقب، فيعيش في داخل لحظته من دون أن يفكر بالمستقبل وذلك من أخذ عبر الماضي. يقول علي (ع): "من أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته".

 

الفرح بغير الحق:

 

{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} كنتم تفرحون بالباطل وكنتم تفرحون بالكفر وكنتم تفرحون بالسير مع الاستكبار ومع الظالمين ومع الفاسقين.. {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

 

الفرح القاروني:

 

{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} وماذا كانت النهاية: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ}.

 

لأنه كان يعيش فرح البطر وفرح الاستكبار وفرح النشوة وفرح المال ويكاد فرحه يطغى على قلبه وعقله ليكون عقله حفنة من نقود، ولتكون عاطفته حفنة من نقود..

 

ما هو منهج السرور والحزن؟

 

يقول علي (ع): "الزهد كله بين كلمتين من القرآن العزيز، قال الله سبحانه: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم}" ليس الزهد أن لا تأكل جيداً ولا تلبس جيداً، ولكن أن لا يكون قلبك متعلقاً بشؤون الحياة بحيث تسقطك الخسارة ويطغيك الربح.

 

وقال (ع) في كتاب لابن عباس: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَيَحْزَنُ عَلَى الشَّيءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ وَلَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءُ حَقٍّ وَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ وَأَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ وَهَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ"... {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.

 

الفرح الحقيقي

 

فإذا أردت أن تفرح فافرح بفضل الله عليك، وافرح برحمة الله الله عليك، فإنّ ذلك يعني أنّ الله يحبك وأن يرضاك وأنه يفتح أبواب رحمته عليك، وأنه يحتضنك في مصيرك بكل حنانه وعطفه ولطفه.

 

ولذلك اختصر أمير المؤمنين (ع) فرح العيد في هذا الاتجاه: "إنما هُوَ عِيدٌ لِمَنْ قَبِلَ اللَّهُ صِيَامَهُ وَشَكَرَ قِيَامَهُ وَكُلُّ يَوْمٍ لَا يُعْصَى اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ عِيدٌ".

 

فالمؤمن حتى لو كان في أشد حالات الألم، وحتى لو كان في عمق المشاكل، وحتى لو حاصرته الحياة بكل ضغوطها ومشاكلها، وكان الله راضياً عنه، فتلك هي السعادة التي عاشها (ص) ورجلاه تدميان من الحجارة التي رماه بها أوباش الطائف، وهو يسمع شتائمهم وسبابهم .. إلا أنه قال: "إن لم يكن منك غضب علي فلا أبالي".

 

وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ  (ص): "إِذَا كَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ نَادَى مُنَادٍ: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ اغْدُوا إِلَى جَوَائِزِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: يَا جَابِرُ جَوَائِزُ اللَّهِ لَيْسَتْ بِجَوَائِزِ هَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ. ثُمَّ قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْجَوَائِزِ".

 

وعن محمد بن عجلان قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (ع) يَقُولُ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يَضْرِبُ عَبْداً لَهُ وَ لَا أَمَةً ... وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ جِنَايَاتِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَعْفُو عَنْهُمْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: اذْهَبُوا فَقَدْ عَفَوْتُ عَنْكُمْ، وَأَعْتَقْتُ رِقَابَكُمْ".

 

قَالَ: "وَمَا مِنْ سَنَةٍ إِلَّا وَكَانَ يُعْتِقُ فِيهَا فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ رَأْساً إِلَى أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ سَبْعِينَ أَلْفَ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ كُلٌّ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْتَقَ فِيهَا مِثْلَ مَا أَعْتَقَ فِي جَمِيعِهِ وَإِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَرَانِيَ اللَّهُ وَقَدْ أَعْتَقْتُ رِقَاباً فِي مِلْكِي فِي دَارِ الدُّنْيَا رَجَاءَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ".

 

هذا هو الفرح كل الفرح، وعلينا أن نعيشه عقلاً وقلباً وحركة وحياة حتى نحصل على تلك الهمسة الروحية ونحن نودع هذه الحياة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}.

 

لذلك، فإنّ علينا أن نجلس بين يدي الله، بقلوبنا وعقولنا، حتى نستذكر كل ذنوبنا، ويقول الإنسان لربه بعد أن يفتح عقله له: يا ربِّ إني تائب من كل فكر الباطل، ويفتح قلبه له ليقول: يا ربِّ إني تائب من كل عاطفة الباطل، ويفتح حياته له ليقول: يا ربّ إني تائب من كل قول الباطل وعمل الباطل وعلاقات الباطل وموقف الباطل، لأنّ الشهر الذي كنا فيه هو فرصة، "فإنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم".

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد