السيد رياض الحكيم
ويمكن المناقشة في الاستدلال بهذه الروايات على التحريف فنقول: أمّا الرواية الأخيرة فهي تشير إلى بعض علماء العربية الذين كانوا يتلاعبون بالنصوص القرآنية على أساس اجتهاداتهم في علوم العربية، وتشير روايات الجمهور إلى وجود هذه الفكرة لدى البعض، وربّما انتشارها، وفي بعض نصوصهم نسبتها إلى عدد من الصحابة والتابعين..
منها: ما أخرجه الطبري في التفسير عن ابن عباس أنّه كان يقرأ (أفلم يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً). قيل له: إنّه في المصحف (أفلم ييأس) قال: أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس، وقال ابن جريح: زعم ابن كثير وغيره أنّها في القراءة الأولى "أفلم يتبيّن" (1) قال ابن حجر هذا الحديث رواه الطبري بإسناد صحيح، كلهم من رجال البخاري" (2).
ومنها: ما زعمه عروة بن الزبير بشأن اللحن في الآيات الثلاث التالية:
1 ـ في سورة طه: 63 (إنّ هذان لساحران).
2 ـ في سورة المائدة: 69 (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون).
3 ـ في سورة النساء: 162 (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة).
قال: سألت عائشة عن ذلك فقالت: يا ابن اختي، هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتابة، قال جلال الدين السيوطي: إسناد صحيح على شرط الشيخين (3).
وعن أبي خالد قال قيل لأبان بن عثمان كيف صارت (والمقيمين الصلاة) وما بين يديها وما خلفها رفع؟ قال: من قِبَل الكاتب، كتب ما قبلها، ثم سأل المملي: ما أكتب قال: اكتب المقيمين الصلاة، فكتب ما قيل له (4).
وهناك روايات عديدة تؤكد أن بعض علماء العربية كان يطبق اجتهاده على القرآن، ومن الواضح أن هذا سلوك غير سليم يؤدي إلى التحريف وتغيير النص القرآني.
وأما باقي النصوص المتقدمة التي قد يستدلّ بها على تحريف القرآن فنقول: ليست تلك النصوص واضحة الدلالة على ذلك، بل في بعضها دلالة واضحة على أن المراد من التحريف حمل الآيات على غير معانيها، خصوصاً أنّه معنىً شائع للتحريف، كما ذكره بعض اللغويين، قال ابن منظور: "والتحريف في القرآن والكلمة: تغيير الحرف عن معناه، والكلمة عن معناها وهي قريبة الشبه، كما كانت اليهود تغيّر معاني التوراة بالأشباه" (5).
وقد أخذ هذا عن كتاب العين للخليل، حيث لم يذكر غيره (6).
ومما يشهد على انسجام ما في هذه النصوص مع التحريف في المعنى أي حمل الآيات على غير معناها أمران:
الأول: أن هذه الروايات واردة لبيان انحراف بعض الفئات عن مسير الحق الذي رسمه الله سبحانه، لذلك اعتُبر في الحديث الثاني وصفاً لمن يهتك الحرَم. فينطبق على حرف اللفظ عن معناه، المنسجم مع إضلال الناس وتغيير السنّة الواردين في الحديث المذكور.
الثاني: أن تحريف الكتاب مقرون في هذه النصوص بالمعاصي التي تنسجم مع الانحراف، مثل معاداة أهل البيت (عليهم السلام) وقتالهم، وإضلال الناس عن سبيل الله، وتغيير السنّة، وغير ذلك مما أشارت إليه النصوص. دون المعاصي المجرّدة التي لا ترتبط بذلك مثل الفحش في القول وأكل الميتة ونحو ذلك، وهو شاهد على أن المقصود من التحريف هو ما يرجع للمعنى الموجب للانحراف، لا مجرد تغيير اللفظ، كما تضمنته بعض روايات التحريف.
وقد أشارت بعض النصوص صراحةً إلى ذلك، وأنّ هؤلاء المنحرفين لم يحرّفوا اللفظ القرآني، مثل ما رواه الكليني بإسناده عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنّه كتب في رسالة إلى سعد الخير: "وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية" (7).
القسم الثاني: مجموعة الروايات التي دلّت على أن بعض الآيات القرآنية قد ذُكرت فيها أسماء الأئمة (عليهم السلام)..(8).
منها: رواية الكليني (9) بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحس ن(عليه السلام)، قال: "ولاية علي بن أبي طالب مكتوب في جميع صحف الأنبياء ولن يبعث الله رسولاً إلاّ بنبوة محمد وولاية وصيه، صلى الله عليهما وآلهما".
ومنها: رواية العياشي بإسناده عن الصادق (عليه السلام): "لو قرئ القرآن كما أنزل لأُلفينا مسمّين". ومنها: رواية الكليني والعياشي عن أبي جعفر(عليه السلام) عن ابن عباس، وفرات بن إبراهيم الكوفي عن الأصبغ بن نباتة: قالوا: قال أمير المؤمنين(عليه السلام): "القرآن نزل على أربعة أرباع، ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام، ولنا كرائم القرآن".
ومنها: رواية الكليني أيضاً بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: "نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) هكذا: وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا ـ في علي ـ فأتوا بسورة من مثله".
ومن ذلك ما روي من إضافة لفظ "في علي" في آية البلاغ من سورة المائدة ويمكن المناقشة في دلالة هذا القسم على التحريف بوجوه.
الأول: إن الزيادة في النص الأخير لا تنسجم مع الآية نفسها، إذ الآية نزلت تحدياً للمشركين بإتيانهم بسورة مماثلة لأية سورة من القرآن، حيث احتجت بعجزهم عن ذلك على صدق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) في دعواه الرسالة، فلا معنى لإقحام تلك الزيادة ـ في علي ـ فلا بدّ أن يكون المقصود من الرواية ـ على فرض صدورها ـ مجرّد تطبيق الآية على الإمام علي (عليه السلام) لا نزول النص باسمه.
الثاني: وجود بعض الشواهد والنصوص على عدم وجود أسماء أهل البيت (عليهم السلام) في نص القرآن، مثل صحيحة أبي بصير المروية في الكافي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (10)، قال: فقال: "نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام) " فقلت له: إن الناس يقولون فما له لم يسمِّ علياً وأهل بيته في كتاب الله عزّ وجل؟ قال: فقال (عليه السلام): "قولوا لهم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) نزلت عليه الصلاة، ولم يسمِّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي فسّر لهم ذلك. ونزلت عليه الزكاة ولم يسمِّ لهم من كل أربعين درهماً درهم حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو الذي فسّر ذلك لهم.." (11).
وتؤكد ما ذكرناه رواية عمار الساباطي عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "قال تعالى بشأن علي (عليه السلام) (أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه قل هل يستوي الذين يعلمون (أنّ محمداً رسول الله) والذين لا يعلمون (أنّ محمداً رسول الله وأنّه ساحر كذّاب) إنّما يتذكر أولو الألباب)".
ثم قال: أبو عبدالله (عليه السلام): "هذا تأويله يا عمّار" (12). وكذلك رواية الكليني وغيره لآية البلاغ في سورة المائدة من دون زيادة لفظ "في علي" كما ستأتي الإشارة إليها.
الثالث: ما تقدمت الإشارة إليه من بعض الروايات التي تنفي التحريف، مثل النص الذي رواه الكليني عن الإمام الباقر(عليه السلام) في رسالته إلى سعد الخير، وفيها: "وكان من نبذهم الكتاب أنّهم أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده".
الرابع: أن التحريف لو كان ثابتاً لاعترض الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه على القوم كما واجهوهم بالاحتجاج بالأحاديث النبوية في فضائل آل البيت (عليهم السلام) وإمامتهم ـ كحديث الغدير وحديث الطائر المشوي ـ ووردت نبذة منه في كتب الجمهور.
خصوصاً أنّ القرآن كان له حفظة ـ كلاً أو بعضاً ـ وقد انتشر هؤلاء في ربوع الدولة الإسلامية المترامية، وكان كثير منهم يوالي الإمام علياً (عليه السلام) فكيف لم تحفظ الآيات المحرّفة المزعومة؟ خاصةً أن روايات التحريف بالنقيصة تدلّ على تحريف كثير من الآيات، فكيف يمكن التلاعب بهذه الكمية الكبيرة من الآيات مع وجود الحافظين والكاتبين لها؟!
الخامس: أن الرجوع للنصوص الواردة في سبب النزول أو النصوص التفسيرية ينفي فرضية التحريف، إذ لا يظهر فيها أية إشارة للأجزاء المقتطعة من الآيات، بينما نجد كثيراً من هذه النصوص تضمّنت تفسير مجموعة كبيرة من الآيات أو نزولها في حق أهل البيت (عليهم السلام) حتى انعكس ذلك وعلى نطاق واسع في كتب الجمهور ولدى رواتهم رغم معارضة السلطات لذلك، فلماذا خفيت كل تلك النصوص المزعومة دون هذه؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جامع البيان: 13 / 104.
(2) فتح الباري: 8 / 282.
(3) الاتقان: 1 / 182، الطبعة الاولى.
(4) المصاحف للسجستاني: 33.
(5) لسان العرب: 9 / 43، دار صادر.
(6) راجع ترتيب كتاب العين: 173 مادة حرف.
(7) روضة الكافي: 8 / 53 حديث 16.
(8) هذه أهم الروايات التي استغلّها المرجفون والمتعصبون لتمزيق وحدة الصف الإسلامي وتشويه مذهب أهل البيت (عليهم السلام) سوف يتضح الموقف السليم فيها والفهم الصحيح لها، كما سنشير إلى مجموعة من النصوص المشابهة لها المروية عن بعض الخلفاء والصحابة والتابعين.
(9) إن مجرد وجود روايات معيّنة في المصادر الحديثية الشيعية لا يعني التزام مؤلفيها بمضمونها، لأن مفهوم الكتاب الحديثي الصحيح غير موجود فى الثقافة العلمية الشيعية، خاصة مع وجود ما يعارض تلك الروايات في نفس الكتاب، كما سنشير إليه خلال هذا البحث.
(10) سورة النساء: 59.
(11) الكافي: 1 / 286 حديث 1.
(12) الكافي: 8 / 204، حديث 264.
الشيخ فوزي آل سيف
السيد محمد حسين الطبطبائي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد محمد باقر الصدر
عدنان الحاجي
الشيخ محمد علي التسخيري
حيدر حب الله
السيد عباس نور الدين
الشهيد مرتضى مطهري
محمود حيدر
رائد أنيس الجشي
ناجي حرابة
الشيخ علي الجشي
السيد رضا الهندي
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
جاسم الصحيح
حبيب المعاتيق
حسين حسن آل جامع
الشيخ عبد الحميد المرهون
كتاب (الغَيبة) لابن أبي زينب النعماني
الشك في أقسامه والموقف منه
العلاقة بين العقيدة والأخلاق والعمل
مصادر تفسير القرآن الكريم (1)
نظريّات العامل الواحد
نظرية جديدة عن تكوّن نجوم الكون
مستقبل المجتمع الإنساني على ضوء القرآن الكريم (2)
سلامة القرآن من التحريف (3)
هل كشف العلوم الحديثة للقوانين والعلل في الطبيعة يلغي فكرة الله والحاجة إليه؟
العمل الأهمّ.. على طريق بناء الحضارة الإسلامية الجديدة