من التاريخ

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

العلل الظاهريّة والحقيقيّة وراء زواج خديجة بالنبيّ (ص)

إن الإنسان الماديّ الّذي ينظر إلى كلّ ما يحيط به من خلال المنظار المادي، ويفسره تفسيراً مادياً قد يتصور (وبالأحرى يظن) أن «خديجة» كانت امرأة تاجرة تهمُّها تجارتها، وتنمية ثروتها، ولأنها كانت بحاجة ماسة إلى رجل أمين قبل أي شيء، لذلك وجدت ضالتها في محمَّد الصادق الأمين صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم فتزوّجت منه، بعد أن عرضت نفسها عليه ومحمَّد صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم هو الآخر، حيث إنه كان يعلم بغناها وثروتها، قبِل بهذا العرض رغم ما كان بينه وبينها من فارق في السن كبير.

ولكن التاريخ يثبت أن ثمة أسباباً وعللاً معنويّة لا مادية هي الّتي دفعت بخديجة للزواج بأمين قريش وفتاها الصادق الطاهر.

 

وإليك في ما يأتي شواهدنا على هذا الأمر:

1 ـ عندما سألت «خديجة» ميسرة عما رآه في رحلته من فتى قريش «محمَّد» فخبّرها ميسرة بما شاهد ورأى من «محمَّد» في تلك السفرة، وبما سمعه من راهب الشام حوله أحسَّت «خديجة» في نفسها بشوق عظيم ورغبة شديدة نحوه كانت نابعة من إعجابها بمعنوية محمَّد صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وكريم خصاله، وعظيم أخلاقه، فقالت من دون إرادتها: «حسبُك يا ميسرة؛ لقد زدتني شوقاً إلى محمَّد صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، اذهبْ فانت حرّ لوجه اللّه، وزوجتك وأولادك ولَك عندي مائتا درهم وراحلتان» ثم خلعَت عليه خلعة سنية (1).

ثم إنها ذكرت ما سمعته من «ميسرة» لورقة بن نوفل وكان من حكماء العرب: فقال ورقة: «لئنْ كانَ هذا حَقاً يا خديجة إنّ محمَّداً لنبيُّ هذهِ الأمُّة» (2).

2 ـ مرَّ النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلّم يوماً بمنزل «خديجة بنت خويلد» وهي جالسة في ملأ من نسائها وجواريها وخدمها، وكان عندها حبرٌ من أحبار اليهود، فلما مرّ النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم نظر إليه ذلك الحبر وقال: يا خديجة مري مَنْ يأتي بهذا الشاب، فأرسلت إليه من أتى به، ودخل منزلَ «خديجة»، فقال له الحبر: اكشفْ عَنْ ظهرك فلما كشف له قال الحبر: هذا واللّه خاتم النبوة فقالت له خديجة: لو رآك عمه وأنت تفتّشه لحلّت عليك منه نازلة البلاء وإن أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود.

فقال الحبر: ومن يقدر على «محمَّد» هذا بسوء، هذا وحق الكليم رسول الملك العظيم في آخر الزمان، فطوبى لمن يكون له بعلاً، وتكون له زوجة وأهلاً فقد حازت شرف الدنيا والآخرة.

فتعجَّبت «خديجة»، وانصرف «محمَّد» وقد اشتغل قلبُ «خديجة بنت خويلد» بحبه فقالت: أيها الحبر بمَ عرفت محمَّداً أنه نبي؟

قال: وجدتُ صفاته في التوراة أنه المبعوث آخر الزمان يموت أبوه وأمُّه، ويكفله جدّه وعمه، وسوف يتزوج بامرأة من قريش سيدة قومها وأميرة عشيرتها، وأشار بيده إلى خديجة فلما سمعت «خديجة» ما نطق به الحبر تعلق قلبُها بالنبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم فلما خرج من عندها قال: اجتهدي أن لا يفوتك «محمَّدٌ» فهو الشرف في الدنيا والآخرة (3).

3 ـ لقد كان ورقة بن نوفل (وهو عم خديجة وكان من كُهّان قريش وقد قرأ صحف «شيث» عليه ‌السلام وصحف «إبراهيم» عليه ‌السلام وقرأ التوراة والإنجيل وزبور «داود» عليه ‌السلام) يقول دائماً: سيُبعَثُ رجلٌ من قريش في آخر الزمان يتزوج بامرأة من قريش تسود قومها (أو تكون سيدة قومها، وأميرة عشيرتها)، ولهذا كان يقول لها: «يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الأرض والسماء» (4).

هذه قضايا ذكرها بعض المؤرخي ، وهي منقولةٌ ومثبتة في طائفة كبيرة من الكتب التاريخية، وهي بمجموعها تدل على العلل الحقيقية والباطنية لرغبة خديجة في الزواج برسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، وإن هذه الرغبة كانت ناشئة من إعجاب «خديجة» بأخلاق فتى قريش الأمين ونبله وطهارته وعظيم سجاياه وخصاله وحبها لهذه الأمور، وليس هناك أي أثر في علل هذا الزواج لأمانة «محمَّد» وكونه أصلَح من غيره لهذا السبب للقيام بتجارة «خديجة».

 

كيفَ تمَّت خِطبةُ خديجة؟

من المسلّم به أن اقتراح الزواج جاء من جانب «خديجة» نفسها أولاً، حتّى أن ابن هشام (5) نقل في سيرته: إن «خديجة» لما أخبرها ميسرة بما أخبرها به، بعثت إلى رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم فقالت له: «يا ابْنَ عم أبي قد رغبتُ فيك لقرابتك وسطتك [أي شرفك ومكانتك] في قومك، وأمانتك وحُسن خلقك، وصدق حديثك» ثمّ اقترحَت عليه أن تتزوج به.

ويعتقدُ أكثرُ المؤرّخين أن «نفيسة بنت عليّة» بَلّغتْ رسالة «خديجة» إلى النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم على النحو التالي: قالت لرسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم: «يا محمَّد ما يمنعك أن تتزوج... ولو دُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألاّ تجيب؟ فقال رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم: فمن هي؟ فقالت: خديجة، فقال رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم: وكيف لي بذلك، فقالت: عليَّ فذهبت إلى خديجة فأخبرتها، فأرسلت خديجة إلى رسول اللّه صلّى الله عليه وآله بوكيلها «عمرو بن أسد» (6) لتحديد ساعة من أجل مراسم الخطبة في محضر من الأقارب (7).

فشاور النبيُ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم أعمامه وفي مقدمتهم «أبو طالب»، ثم عقدوا مجلساً فخماً حضره كبارُ وجوه قريش، ورؤساؤها فخطبَ «أبو طالب»، وبعد أنَ حَمداللّه وأثنى عليه وصفَ ابن أخيه محمَّداً بقوله: «ثم إنّ ابْن أخي هذا محمَّد بن عبد اللّه لا يوزَنُ به رجلٌ إلاّ رجح به شرفاً ونُبلاً وفضلاً وعقلاً، وإن كان في المال فإنَ المالَ ظِلُّ زائلٌ، وأمرٌ حائلٌ وعاريةٌ مُسْتَرجعَة، وَلَهُ في خديجة رغبةٌ ولها فيه رغبةٌ، والصَّداق ما سألتم عاجله وآجله مِن مالي، ومحمَّدٌ من قد عرَفتُمْ قرابتَه».

وحيث أن «أبا طالب» تعرَّض في خطبته لذكر قريش، وبني هاشم وفضيلتهم، ومنزلتهم بين العرب، لذلك تكلّم «ورقة بن نوفل بن أسد» الّذي كان من أقارب خديجة (8) وقال في خطبة له: «لا تنكُرُ العشيرة فضلكُمْ، ولا يَرُدُّ أحدٌ من الناس فخركم وشرفكُمْ وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكُمْ» (9).

ثم أجري عقد النكاح ومهرها النبي صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم أربعمائة دينار وقيل أصدقها عشرين بكرة (10).

 

عمر خديجة عند زواجها بالنبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم:

المعروف المشهور أن خديجة عليها ‌السلام تزوجت من رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وهي في سنّ الأربعين وأنها وُلدَت قبل عام الفيل بخمسة عشر عاماً.

وذكر البعضُ أقلَّ من ذلك أيضاً.

وذكَرَ أنها تزوجت قبل النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم برجلين أوّلهما «عتيقُ بن عائذ» ثمَ من بعده أبو هالة التميمي اللّذين توفي كلٌ منهما بُعيد زواجه بخديجة (11).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 52.

2 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 191 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 136.

3 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 20 و 21 نقلاً عن كتاب الأنوار لأبي الحسن البكري.

4 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 21.

5 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 189 و 190.

6 ـ المعروف أنّ والد خديجة توفي في حرب الفجار ولهذا قام بالإيجاب من قبلها عمها عمرو بن أسد ولهذا لا يصحّ ما ذكره بعض المؤرخين من أنّ خويلد (والد خديجة) امتنع من تزويجها لرسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في بداية الأمر، ثم رضي بذلك نزولاً عند رغبة خديجة.

7 ـ تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.

8 ـ المعروف أنّ ورقة كان عمّاً لخديجة ولكن هذا موضع نقاش لأنّ «خديجة بنت خويلد بن أسد» وورقة بن نوفل بن أسد فيكونان أولاد عمومة أي أنّه ابن عم خديجة وهي بنت عمّه. ولذلك جاء في بعض المصادر وصفه ب‍ «ابن عمّها» (تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 282) وراجع قبله السيرة النبوية لابن هشام : ج 1 ، ص 203.

9 ـ بحار الأنوار : ج 16 ، ص 16 ، مناقب آل أبي طالب : ج 1 ، ص 30 ، السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139 ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 264.

10 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 139.

11 ـ ربما يُشكَّك في أن تكون خديجة عليها‌ السلام قد تزوجت قبل رسول اللّه صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم بأحد وهي الّتي امتنعت عن كل من خطبها ورام تزويجها من سادات قريش وأشرافها. راجع الاستغاثة : ج 1 ، ص 70.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد