مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

اللباس في الماضي والحاضر

 

الشيخ ناصر مكارم الشيرازي .. 

لم يزل الإنسان فيما مضى ـ كما يشهد به التاريخ ـ يلبس الثياب، ولكن الألبسة قد تغيرت وتنوعت تنوعاً بالغاً عبر الزمن، فقد كانت الثياب تلبس فيما سبق ـ وفي الأغلب ـ لأجل حفظ الجسم من الحرّ والقرّ وكذا للزينة والتجمل، والجانب الوقائي كان يأتي في الدرجة اللاحقة، ولكن في ظل الحياة الصناعية الحاضرة أصبح الجانب الوقائي في المرتبة الأُولى من الأهمية في كثير من الحقول، فرجال الفضاء ورجال الإطفاء، وعمال المعادن والمناجم والغواصون، وغيرهم كثيرون، يستخدمون ألبسة خاصّة لوقاية أنفسهم من مختلف الأخطار.
لقد تطورت وسائل إنتاج الألبسة والثياب في عصرنا الراهن تطوراً هائلاً، واتسع نطاقها اتساعاً كبيراً، بحيث أصبح لا يقاس بما مضى.
يقول كاتب تفسير المنار في المجلد الثّامن عند تفسير الآية المبحوثة هنا : «لقد بلغ من إتقان صناعات اللباس أنّ عاهل ألمانية الأخير (قيصرها) دخل مرّة أحد معامل الثياب ليشاهد ما وصلت إليه من الإتقان، فجزوا أمامه عند دخوله صوف بعض كباش الغنم، ولما انتهى من التجوال في المعمل ومشاهدة أنواع العمل فيه، وأراد الخروج قدّموا له معطفاً ليلبسه تذكاراً لهذه الزيارة، وأخبروه أنّه صنع من الصوف الذي جزوه أمامه عند دخوله، فهم قد نظفوه في الآلات المنظِّفة، فغزلوه بآلات الغزل، فنسجوه بآلات النسج، ففصَّلوه فخاطوه في تلك الفترة القصيرة، فانتقل في ساعة أو ساعتين من ظهر الخروف إلى ظهر الإمبراطور». (1)
ولكن ـ للأسف ـ قد اتسعت الجوانب الفرعية، بل وغير المحمودة والفاضحة للثياب والألبسة وتعددت كثيراً إلى درجة أنّها غطت على الفلسفة الأصلية للباس.
لقد أصبح اللباس ـ اليوم ـ وسيلة لأنواع التظاهر، وإشاعة الفساد، وتحريك الشهوات، والتكبر والإسراف والتبذير، وما شابه ذلك. حتى أنّنا ربّما نشاهد ألبسة يرتديها جماعات من الناس ـ وبخاصّة الشباب المتغرب ـ يفوق طابُعها الجنوني على الطابع العقلاني، وتكون أشبه بكل شيء إلاّ باللباس والثوب.
والذي تقود إليه الدراسة الموضوعية لهذه الظاهرة، هو أنّ للعُقد النفسية دوراً مهمّاً في إرتداء مثل هذه الألبسة العجيبة الغريبة، فالأفراد الذين لا يتمكنون من القيام بعمل مهم وملفت للنظر لتوكيد وجودهم في المجتمع يلجأون إلى هذا الأسلوب ويحاولون بإرتداء هذه الألبسة غير المأنوسة والعجيبة إثبات وجودهم وحضورهم، ولهذا نلاحظ أنّ أصحاب الشخصيات المحترمة، أو الذين لا يعانون من عقد نفسيّة ينفرون من إرتداء مثل هذه الثياب.
وعلى كل حال فإنّ مبالغ طائلة وثروات عظيمة جدّاً تهدر وتبدّد ـ اليوم ـ في سبيل اقتناء وتعاطي الألبسة المتنوعة والموضات المختلفة ولو منع من تبذيرها وتبديدها والإسراف فيها لأمكن حل الكثير من المشكلات الاجتماعية بها، ولتحولت إلى بلاسم وضمادات ناجعة لكثير من جراحات الطبقات المحرومة والفئات البائسة الفقيرة في المجتمعات البشرية.
هذا ويستفاد من تاريخ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأئمّة العظام أنّهم كانوا يعارضون بشدّة مسألة التفاخر بالألبسة والإفراط في التجمل بها، إلى درجة أنّنا نقرأ في الرّوايات أنّ وفداً من النصارى قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة، وهم يلبسون الألبسة الحريرية الجميلة جداً، والتي لم يرها العرب إلى ذلك اليوم ولم يعهد أن لبسوها، فلما حضروا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سلموا عليه، لم يردَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على سلامهم، بل أحجم حتى عن التحدث معهم ولو بكلمة، وأعرض عنهم، فلمّا سألوا عليّاً (عليه السلام) عن سبب إعراض النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم، قال (عليه السلام) لهم : أرى أن تضعوا حللكم هذه وخواتيمكم ثمّ تعودون إليه.
ففعل النصارى ما قاله لهم الإمام (عليه السلام) ، ثمّ دخلوا على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلّموا عليه فردّ عليهم وتحدث معهم. ثمّ قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرّة الأُولى وإنّ إبليس لمعهم». (2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تفسير المنار ، ج8 ، ص359.
2- سفينة البحار ، ج2 ، ص4-5 ، مادة (لبس)

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد