مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
عن الكاتب :
أحد مراجع التقليد الشيعة في إيران

دور المحيط في الأخلاق


الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ..

يوجد هناك عناصر لها أثرها الكبير في منح الإنسان قوّة التّصدي، لحالات الضعف أمام الرّذائل الأخلاقيّة، وتقوية أصول الفضائل في واقع الإنسان، وحركته التّكاملية في الحياة، ومنها:
1- طهارة وصفاء المحيط
ممّا لا شك فيه أنّ المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، يعكس أثره الكبير على سلوكيّات وروحيّات ذلك الإنسان، حيث يسترفد كثيراً من صفاته وأفعاله من المحيط الاجتماعي والثّقافي، فالمحيط النّظيف والطّاهر غالباً ما يفرز أناساً طاهرين، والعكس صحيح.
ورغم أنّ الإنسان يمكن أن يعيش نظيفاً وطاهراً في الوسط الملّوث، وبالعكس يمكنه أن يسير في طريق الرّذيلة والإثم في المحيط الطّاهر، وبعبارة أخرى إنّ الظّروف الاجتماعيّة والثّقافية التي يعيش فيها الإنسان، ليست العلّة التّامة في صلاح وانحراف الإنسان، ولكنّها يمكن أن تُهيىء الأرضية لذلك قطعاً، وهذا ممّا لا يقبل الإنكار.
وقد يقول البعض، بأنّ الإنسان يخضع لإجبار المحيط والمجتمع، "فيبقى الإنسان كما هو الموجود فعلاً"، ولكننا ننكره جملة وتفصيلاً، من دون أن ننكر دور العوامل القويّة في عمليّة إخضاع الفرد لمتطلبات الواقع وتحدياته، في أجواء التّفاعل الاجتماعي.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، ونقرأ الآيات التي تؤيّد تأثير المحيط في شخصيّة الإنسان، بالدّلالة الالتزاميّة، والمطابقيّة للكلام، لنستوحي منها المفهوم القُرآني في هذا الإطار:
1- ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الاْيَاتِ لِقَوْم يَشْكُرُونَ﴾(الاعراف:58).
2- ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْم يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَام لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾(الأعراف:138).
3- ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّارا﴾(نوح:26-27).
4- ﴿يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ﴾(العنكبوت:56).
5-﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الاَْرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾(النساء:97).

تفسير واستنتاج
"الآية الأولى" تحدّثت عن تأثير المحيط في أعمال وأفعال الإنسان، ببيان لطيف وجذّاب، وقد اختلف المفسّرون في تفسير هذه الآية، وذهب كلّ واحد منهم إلى رأي...
فبعضهم قال: إنّ المراد منها، أنّ ماء الوحي الرّقراق كقطرات المطر، ينزل على أرض القلوب فترتوي منه القلوب الطاهرة، وتنبتُ ورود المعرفة وفواكه التّقوى والطّاعة اللّذيذة، ولكن القلوب السّوداء والملوثة، لا تتأثر به من موقع الاستفادة في حركة الحياة، وعندما نرى أنّ ردود الفعل، قبال دعوات الأنبياء، وتعاليم الوحي ليست متساوية عند الجميع، فهذا لا يدلّ على وجود النقص والخلل في فاعليّة الفاعل، بل أنّ الإشكال إنّما هو في قابليّة القابل1.
والأمر الآخر أنّ الغرض من بيان هذا المثال، هو أن يكون طلب الفضائل والمحاسن من محلّها المناسب، لأنّ السّعي في المحل غير المناسب ليس هو إلاّ إهدار وتضييع للطاقات2.
الاحتمال الثالث، في تفسير هذه الآية ويمكن الاستفادة منه هنا، هو أنّ في هذا المثال شبّه الإنسان بالنبات، ولكن الأرض التي تنبت فيها النباتات إمّا حلوة وسبخة، ممّا تنعكس تأثيراته على النّبات أيضاً، وفي المحيط الملّوث، لا يمكن تربية الإنسان في إطار التعاليم الإلهيّة والقيم الأخلاقيّة، مهما كانت التعليمات وأساليب التربية قويّةٌ ومؤثرةٌ، فكما أنّ قطرات المطر المُوجبة لبعث الحياة للأرض، لا يمكن أن تؤثر في الأرض السّبخة، فكذلك الحال في عناصر التربية في المحيط الملّوث، وبناء عليه، يجب علينا أن نهتم بإصلاح المحيط الاجتماعي، والثّقافي، الذي نعيشه ونتفاعل معه دائماً، للتوصل إلى تهذيب النفوس، وتحكيم الأخلاق الصالحة، في واقع الإنسان والحياة.
وبالطّبع لا يوجد تقاطع بين التفسيرات الثلاثة المتقدّمة، والمثال الآنف الذّكر، يمكن أن يكون ناظراً لهذه التفسيرات الثّلاثة على السّواء.
نعم، فإنّ المحيط الإجتماعي الملّوث بالرذيلة، هو عدوّ للفضائل الأخلاقيّة، والحال أنّ المحيط السّالم والطّاهر، يهيىء أحسن وأفضل الفرص، لغرض تهذيب النّفوس، في معارج الكمال الرّوحي والمعنوي.
وقد ورد في الحديث المعروف عن الرّسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مُخاطباً أصحابه:

"إِيّاكُم وَخَضراءِ الدِّمَنِ"، قِيلَ يا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ خَضراءُ الدِّمَنِ قال صلى الله عليه واله وسلم: "المَرأةُ الحَسناءِ فِي مَنْبَتِ السُّوءِ"3.
هذا التّشبيه البليغ، يمكن أن يكون إشارةً، لتأثير المحيط الصّالح والسّيء في شخصية الإنسان، على المستوى الإيجابي والسّلبي، وهو إشارةٌ لمسألة الوراثة، وتأثيرها على مُجمل الشّخصية، وإشارةٌ للإثنين معاً.
وفي "الآية الثانية": إشارةٌ لقوم بني إسرائيل، الّذين بقوا لسنوات طويلة، تحت إشراف وتعليمات النّبي موسى عليه السلام، في عمليّة الهداية الرّوحية والمعنويّة، وفي مجال التوحيد وسائر الأصول الدينيّة، ورأوا بأمّ أعينهم المعجزات الإلهيّة، كانفلاق البحر لهم، ونجاتهم من براثن فرعون وجنوده، ولكن وبمجرد أن صادفوا في طريقهم للشام والأرض المقدسة، قوماً يعبدون الأصنام، تأثّروا بهم وبمحيطهم الملّوث، وقالوا: ﴿يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾.
فتعجّب موسى عليه السلام من هذا الانقلاب، وغضب غضباً شديداً، من قولهم هذا وقال لهم: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾.
وأخذ يبيّن لهم مفاسد عبادة الأصنام.
والعجيب أنّ قوم بني إسرائيل، وبعد التّوضيحات الصّريحة والمكرّرة لموسى عليه السلام، بقوا تحت تأثير هذا المحيط المسموم السّلبي، بحيث استطاع السّامري أن يتحرك من موقع إغوائهم، وتفعيل عناصر الانحراف لديهم في غيبة موسى عليه السلام، والّتي استغرقت عدّة أيّام، حيث صنع لهم صنماً من ذهب، وتبعه الغالبيّة من هؤلاء القوم، وتحوّلوا من أجواء التّوحيد إلى أجواء الشّرك.
فهذا الأمر يمثل علامةً واضحةً على تأثير المحيط السّلبي، في صياغة السّلوك الإنساني، من موقع الانحراف والزيغ في دائرة المسائل الأخلاقية، بل وحتّى العقائديّة أيضاً، ولا شك أنّ بني إسرائيل وقبل مرورهم بأولئك القوم، كانت لديهم الأرضيّة المساعدة لعبادة الأصنام، وذلك إثر بقائهم مع الوثنييّن المصرييّن لمدة طويلة، فعندما رأوا ذلك المنظر، عادوا في دائرة الذّاكرة إلى ذلك الماضي الأسود، وعلى كل حال فإنّ كلّ هذه الأمور، هي دليل واضح على تأثير المحيط الاجتماعي، في أخلاق وعقائد الإنسان في حركة الواقع النّفسي.
وفي "الآية الثالثة": نجد شاهداً آخر على تأثير المحيط على أفكار وأفعال الإنسان، وهو ما نراه في سلوك نوح عليه السلام، ودعاؤه على قومه الكفّار بالفناء والَمحق.
إنّ نوح عليه السلام لم ينطلق في دعائه عليهم من موقع الذات والانفعال، بل من موقع العقل والبرهان، فقال الله تعالى في القرآن الكريم، على لِسان نوح: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً﴾.
فهم في الحال الحاضر كفّار ومنحرفون، وفي حالة استمرارهم في التّكاثر والتّناسل فسوف يؤثّرون على أولادهم في عمليّة الإيحاء لهم بالكفر، ويربّوهم تربيةً منحرفةً.
ومن "الآيتين الرابعة والخامسة"، نستوحي لزوم الهجرة من المجتمع والمحيط المنحرف، حيث يخاطب الباري تعالى عباده في الآية الرابعة، يقول: ﴿يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ﴾.
وفي الآية الخامسة، يحذّر المؤمنين من البقاء في المجتمع الغارق في الضّلالة، ويؤكّد لهم لزوم الهجرة، وأنّ عذرهم غير مقبول في حالة البقاء والتكاسل، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾.
وفي الحقيقة إنّ مسألة الهجرة هي من الأصول الأساسيّة في الإسلام، وقد شيّد الإسلام دعائمه عليها، حيث تتضمن عمليّة الهجرة، حكمٌ وغاياتٌ عديدةٌ وأهمّها الهروب والفرار من المحيط الملّوث، والنجاة من تأثيراته السيّئة على واقع الإنسان ومحتواه الداخلي.
وليست الهجرة مختصة بزمان صدر الإسلام، كما يعتقد البعض، بل هي جارية في كلّ عصر وزمان يتعرض فيها المسلمون لضغوط قوى الشرك والفساد والكفر، التي تشكّل عناصر ضغط على الرّوح المنفتحة على الله والخير، وليفّروا بدينهم وأخلاقهم وعقائدهم من أجواء المحيط الملّوث، فجاء في الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم: "مَنْ فَرَّ بِدِينِهِ مِنْ أَرْض إِلى أَرْض وَإِنْ كانَ شِبراً مِنَ الأَرضِ اِستَوجَبَ الجَنَّةَ وَكانَ رَفِيقَ مُحَمَّد صلى الله عليه وآله وسلم وَإِبراهِيمَ عليه السلام".
فالتأكيد على مقدار الشّبر، إنّما يدلّ على أهميّة المسألة في دائرة الاحتفاظ بالإيمان فلو تسنّى للإنسان ذلك، وبأيّ مقدار وأيّ زمان ومكان، فمعناه التوافق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم عليه السلام في خطّ الرّسالة والدّين.

والخلاصة، أنّ المحيط والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، كان ولا يزال عاملاً مهمّاً في تكوين وصياغة شخصية الإنسان، وأخلاقه ومؤثّراً فيها، وإن كان الأمر ليس على وجه الجَبر، وبناء على ذلك فإنّ تطهير أجواء المحيط الاجتماعي من أهم العوامل لتهذيب الأخلاق وتربية الملكات الفاضلة في المحتوى الداخلي للإنسان.
وإذا لم يستطع أنّ يغيّر الإنسان من أجواء المحيط شيئاً، فيجب عليه أن يُهاجر ويترك ذلك المحيط الغارق في الزّيغ والضّلالة، وكما أنّ الإنسان، وعندما تتعرض حياته المادية للخطر، يتحرك من موقع الابتعاد والهجرة من أرضه، فكذلك عليه أن يُهاجر منها، عندما تتعرض قِيمه الأخلاقيّة وحياته المعنويّة، التي هي أهم من حياته الماديّة، للخطر...، ولا ينبغي أن يتذرّع بأنواع الحجج والأعذار، ليبقى فيها بحجّة أنّها أرضي وأرضَ آبائي...، وغير ذلك من الأعذار والتّبريرات الواهية، ويستسلم لعناصر التّلوث والانحراف التي تؤثر عليه وعلى أولاده، في الدائرة السّلبية ولا يهاجر منها؟
فيتوجب على جميع علماء الأخلاق، أن يتحركوا في عمليّة التربية، لغرض إحياء الفضائل الأخلاقية، وتفعيل عناصر الخير والإيمان، من خلال إصلاح المحيط والمجتمع، وبدون ذلك، فإنّ السّعي الفردي والآني في هذا الخط، سيكون أثره ضعيفاً في حركة التّربية والتّهذيب.

*الأخلاق في القرآن، آية الله مكارم الشيرازي، مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام - قم، ط2، ج1، ص129-134

1- هذا التفسير جاء به الفخر الرازي، وأتى به بعنوان الاحتمال الأول في معنى الآية،: (تفسير الفخر الرازي، ج14، ص114) ونقله جماعَة اُخرى عن إبن عباس.
2- جاء هذا التفسير في مجمع البيان، في تفسيره لسورة الحديد في ذيل الآية الآنفة الذكر.
3- وسائل الشيعة، ج14، ص19، ح7 ـ بحار الانوار، ج100، ص232، ح10.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد