لا شك أن انفراد العباس عليه السلام بمقام خاص دون سائر الشهداء مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يدلّ على مكانة خاصة ومميّزة لذلك العبد الصالح عند الله عزَّ وجل. ولا شك بأن الكرامات المعروفة عنه أيضاً والمشهورة والذائعة الصيت بين الجماهير الموالية لأهل بيت العصمة عليهم السلام تشير إلى ذلك. وكذلك انفراده بزيارة خاصة إلى جانب زيارة الإمام الحسين عليه السلام وعلي الأكبر والشهداء، تدلّ بوضوح لا مزيد عليه على عظمة تلك الشخصية المتفرّعة من الشجرة العلوية المباركة صنو النبوّة وتوأمها في الجهاد الكبير المؤسس لمسيرة الإسلام.
ومما يؤسف له أن سيرة العباس عليه السلام لا نملك منها الشيء الكثير من التفاصيل. إلاَّ أن مواقفه الرسالية الثابتة والقوية في كربلاء وتضحيته واستبساله في الذود عن الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده في المعركة تعطينا صورة واضحة لا غبار عليها، خاصة إذا لاحظنا أنه كان حامل اللواء في معسكر الإمام عليه السلام. والمعلوم أن حامل اللواء عادةً يكون من أوثق الناس وأشدّهم إيماناً بمبادئه وأقواهم مراساً وعراكاً وخبرة في القتال.
من هنا نرى أن الإمام الحسين عليه السلام لم يفرّط بالعباس من أول المعركة، وإنما تركه إلى جانبه حتى المرحلة الأخيرة من مجرياتها،. وكان أغلب من هم مع الإمام عليه السلام سواء من أصحابه أو من أهل بيته قد نالوا درجة الشهادة الرفيعة وارتحلوا إلى الله العلي القدير.1
إنّ الذي يبدو من كافة الشواهد والأدلة هو أن أبا الفضل العباس كان آخر من استشهد قبل الإمام الحسين من المجاهدين، بإستثناء الطفل البالغ ستة أشهر من عمره، أو الصبي البالغ أحد عشر عاماً.
وكانت تلك الشهادة فداءً لعمل عظيم أقدم عليه، ألا وهو جلب الماء للعطاشى في خيام أبي عبد الله الحسين. وبالنظر في تلك الزيارات والتمعّن في تلك الكلمات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام) بشأن أبي الفضل العباس، فإننا نكتشف أنه تمّ تأكيد خصلتين: الأولى البصيرة، والثانية الوفاء.
فأين تكمن بصيرة أبي الفضل العباس؟ لقد كان أولئك جميعاً من أولي البصائر، إلاّ أنه كشف عن بصيرة أكبر. ففي يوم تاسوعاء، أي في عصر مثل هذا اليوم، عندما سنحت له الفرصة للخلاص من هذا البلاء حيث اقترحوا عليه الاستسلام في مقابل إعطائه الأمان.2
وهذا ما تكرّر مرتين. ففي المرة الأولى، أرسل ابن زياد أماناً للعباس وأخوته بسبب توسُّط أحد أخوالهم. إلاَّ أن العباس عليه السلام أجاب عن ذلك بقوله: "أبلغ خالنا السلام وقل له أن: لا حاجة لنا في الأمان. أمان الله خير من أمان ابن سمية". والمرة الثانية كانت في اليوم العاشر عندما نادى الشمر لعنة الله عليه: أين بنو أختنا، أين العباس وأخوته؟ إلاَّ أنهم أعرضوا عنه. فقال الإمام الحسين عليه السلام أجيبوه ولو كان فاسقاً. فأجابوه وقالوا: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. فقال العباس عليه السلام: "لعنك الله. أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له. وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء".
وأما وفاء أبي الفضل العباس فقد تجسّد أيضًا في موقفين.3
أولهما، موقفه ليلة العاشر من المحرم: حيث أنه في تلك الليلة الأخيرة لأصحاب الحسين عليه السلام في هذه الدنيا كان الإمام عليه السلام قد جمعهم وخطب فيهم قائلاً: "أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعاً... فانطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي". وعند ذلك قام العباس عليه السلام وقال: "لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك. لا أرانا الله ذلك أبداً" .
فالعباس عليه السلام كان بإمكانه لو لم يكن يعيش الوفاء لدينه وإسلامه وإمامه، لكان رضي بذلك العرض السخي والكريم من الإمام عليه السلام لحفظ حياته وحياة أخوته بذلك أيضاً.
وثاني الموقفين، موقفه عند مشرعة الماء:
إن قطع الطريق من جانب الجيش الأموي أمام الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته، قد أوصل كل من في معسكر الإمام عليه السلام إلى حالة شديدة من العطش في ذلك الجو اللاهب الناتج عن شدة حرارة الشمس وسخونة رمال الصحراء، والعباس عليه السلام كان يحمل لقب "السقّاء" لأنه كان متكفلاً لشدَّة بأسه وشجاعته بإحضار الماء، وكان قد فعل ذلك قبل اليوم العاشر، فهنا تجمع روايات السيرة الحسينية أن العباس عليه السلام شق جموع ذلك الجيش ووصل إلى المشرعة عند حافة النهر، واغترف غرفة بيده لكي يشرب لإرواء بعض ظمأه الشديد، إلاَّ أنه تدارك الأمر وتذكر أن سيده وإمامه الحسين عليه السلام يعاني مثله العطش أيضاً، فما أسرع ما رمى الماء من يده، ومثَّل ذلك شعراً فقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسين وارد المنونِ وتشربين بارد المعين؟
فحمل وهو شديد العطش قربة الماء ليوصلها إلى الإمام عليه السلام وأهل بيته لكي يشربوا، إلى أن أصابت السهام قربة الماء فأريق ماؤها، وانهمرت عليه السهام إلى أن سقط صريعاً إلى الأرض، ونادى الإمام الحسين عليه السلام فحضر عند جسده الشريف يريد حمله إلى المخيم، فإذا بالعباس يرفض، إذ كيف سيواجه العطاشى من النساء والأطفال الذين كانوا ينتظرون الماء الذي كان يحمله إليهم ليرتووا.
إن ذلك الموقف فيه من الايثار الشيء الكبير والعظيم، فالقضية لم تكن كفاً من الماء، إلاَّ أنه كان يساوي في تلك اللحظات الحرجة حياة إنسان لشدة الاحتياج إلى قطرة من الماء. وهذا الموقف هو الذي ترمز إليه وتعبّر عنه الآية القرانية :"ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".
ومما لا ريب فيه أن تلك الشخصية استحقت بكل تقدير وعن جدارة تلك الزيارة الخاصة التي وردت عن الأئمة الأطهار عليهم السلام والتي جاء فيها: "السلام عليك أيها العبد الصالح والصديق المواسي. أشهد أنك آمنت بالله ونصرت ابن رسول الله ودعوت إلى سبيل الله وواسيت بنفسك. فعليك من الله أفضل التحية والسلام. بأبي أنت وأمي يا ناصر دين الله. السلام عليك يا ناصر الحسين الصدّيق. السلام عليك يا ناصر الحسين الشهيد. عليك مني السلام ما بقيت وبقي الليل والنهار".
ـــــــــــــــــ
1 ــ كتاب "مواقف من كربلاء" للإمام الخامنئي
2 ــ الجمعة 9 محرم 1421 هـ ـ ق طهران
3 ــ كتاب "مواقف من كربلاء" للإمام الخامنئي
الشيخ محمد الريشهري
الدكتور محمد حسين علي الصغير
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
السيد محمد حسين الطبطبائي
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد جواد البلاغي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
السيد عبد الأعلى السبزواري
محمود حيدر
الشيخ علي الجشي
حسين حسن آل جامع
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
العقيدة، المعنى والدور
المرتدون في زمن النبي (ص)
طبيعة الفهم الاستشراقي للقرآن (1)
حين تصبح المرأة المثيرة هي القدوة، ما الذي جرى وكيف تُصنع الهوية؟
الحب في اللّه
العرفان الإسلامي
جمعية العطاء تختتم مشروعها (إشارة وتواصل) بعد 9 أسابيع
الرؤية القرآنية عن الحرب في ضوء النظام التكويني (2)
قول الإماميّة بعدم النّقيصة في القرآن
معنى كون اللَّه سميعًا بصيرًا