مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد صنقور
عن الكاتب :
عالم دين بحراني ورئيس مركز الهدى للدراسات الإسلامية

الآثار المعنوية للصوم (2)

 

الشيخ محمد صنقور
قلنا إنَّ الآثار المعنوية للصوم -كما أشارت الروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام- هي سكون القلب، وهي التقوى، وتثبيت الإخلاص، والحكمة. هذه آثارٌ معنوية أربع تترتب على الصوم- وليس أيُّ صومٍ، كما ربما نبين ذلك-.
أولاً: الحكمة
نبدأ بالحكمة والتي هي أحد الآثار التي تترتَّب على الصوم. ورد في حديث المعراج(۳)، إنَّ رسول الله (ص) قال لربِّه: يا ربي، وما ميراثُ الصَّوم؟ قال: الصوم يُورث الحكمة، والحكمة تُورث المعرفة، والمعرفة تُورث اليقين. فإذا استيقن العبد، لا يبالي كيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر)(۴) فإذن ميراث الصوم هو الحكمة.
ما هو المراد من الحكمة؟
نستلهم المراد من الحكمة من كلمات أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، ورد عن أبي الحسن الإمام الكاظم عليه السلام قال: (الحكمة هي الفهم والعقل)، المراد من الحكمة هو الفهم والعقل.
ما هو المراد من الفهم؟ وما هو المراد من العقل؟
الفهم هو رؤية الأمور على ما هي عليه من واقع، بمعنى أن تستوعب الأمر استيعاباً واقعياً، وتكون مُدرِكاً له، أما مجرّد أن تتصور هذه الأمور، وتكون هذه التصورات غير مطابقة للواقع؛ هذا لا يكون فهماً، هذا يكون جهلًا، وقد يكون جهلًا مركبًا(۵).
إذن الفهم هو رؤية الأمور على ما هي عليه من واقع، واستيعاب الأمور على ما هي عليه من واقع، فالرجل الفاهم هو الرجل الذي لا ينظر إلى الأمور من منظار نفسيّ، عاطفيّ، فالعاطفة تحجب العقل عن إدراك الواقع، وتكون جداراً بين الواقع والعقل. كذلك حين يعتمد الإنسان وسائل غير برهانية للتعرُّف على الواقع، فإنَّه لن يصل إلى الواقع.
من هو الذي يصل إلى الواقع؟ ومن الذي يفهم الواقع؟ هو الذي يتأمَّل في كلِّ ما يشاهده، ويكون نظره إليه نظراً مُتأنياً، وليس نظراً مُرتجلاً، هذا أولاً. وثانياً يعتمد الوسائل البرهانية، والوسائل العقلائية للتعرُّف على الواقع.
هناك حدثٌ واحدٌ يشاهده اثنان، يفهمه الأوَّل، ويغفل عنه الآخر! ما هو سرُّ ذلك؟ سرُّ ذلك أنَّ الأوَّل اعتمد على التروِّي والتأمُّل والتأنِّي، وملاحظة الحيثيات المتصلة بهذا الأمر، هذا أولاً، وثانياً: اعتمد الوسائل العقلائية للتعرُّف على واقع هذا الأمر.
لذلك ورد في الرواية أنَّ: (العاقل هو الذي لا تلتبس عليه اللوابس)، الذي لا تلتبس عليه اللوابس هو الإنسان الذي يعتمد طرقاً برهانية، طرقاً عقلائية لتحليل ما يشاهده. هناك أمران مهمَّان للوصول إلى الواقع: الأول هو اعتماد الوسيلة البرهانية العقلائية، والأمر الثاني هو تعمُّد فهم الواقع.
كثيرٌ ممن لا يفهم الواقع هو لا يريد أن يفهم، فتراه يعتمد على ما يخطر في ذهنه من انطباعات عن هذا الموقف الذي شاهده، ويعتمد هذه الانطباعات، ويرتِّب عليه الآثار دون أن يبذل مؤونة زائدة للتفكير والتأمُّل للتعرف على أنَّ هذا حقٌ أو أنه باطل، وللتعرُّف على ما ينبغي أن يحصل وما لا ينبغي أن يحصل، ليس له أيُّ استعداد لأن يبذل هذه المؤنة، إذا افتقد الانسان هذين الأمرين فلن يصل إلى الواقع، هذا هو مراد من الفهم.
 

ب-المراد من العقل:
وأما ما هو المراد من العقل؟ فهو حسن تدبير الأمور، فالعاقل هو الذي يتمكَّن من تدبير أموره على الشَّكل المتناسب مع الحق، ومع مقتضيات العقل، ومقتضيات السِّيرة العقلائية الناشئة عن مقتضياتٍ واقعية، هذا هو العقل.
الفرق بين الذكاء والعقل
فرقٌ بين الذكاء والعقل، قد يكون الإنسان ذكيًّا ولا يكون عاقلًا، العقل هو القدرة على تدبير الأمور، ويكون هذا التدبير هو التدبير المتناسب مع ما يتطلبه الواقع، ونقصد من الواقع هو الحق، وأما الذكاء فهو أمرٌ يخلتف تماماً عن العقل، وقد يجتمع في الإنسان ذكاءٌ وعقل، ولكن قد يفترق الذَّكاء عن العقل، فيكون الإنسان ذكيًّا ولا يكون عاقلاً، وأنا أثير هنا نقطة -لا يساء فهمها-، أنا أتصوَّر أنَّ الرِّوايات والأدلَّة التى أشارت إلى أنَّ النِّساء ناقصات العقول، وما قيل من نقض عليه بأنَّ كثيراً من النساء يتفوَّقون في المعارف وفي العلوم على الرجال، فما هو معنى أنَّ النساء ناقصات العقول، وما معنى قوَّامية الرِّجال على النساء؟

التمييز بين الذكاء والعقل يُساهم في الإجابة عن هذا الإشكال، هذا هو المراد كما نفهم من قول أبي الحسن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: (إنَّ الحكمة هي الفهم والعقل)، وهناك روايات أخرى أشارت إلى ما هو المراد من الحكمة، مثلًا: قول الإمام الباقر عليه السلام: (الحكمة أن لا أتكلَّف ما قد كُفيته ولا أضيع ما وَليته)(۶) هذا بيانٌ لمصداقٍ من من مصاديق الحكمة، وهو تدبير الأمور على أحسن وجه، واستيعابها، وفهمها فهماً واقعيًّا، ثم تدبيرها تدبيراً متناسباً مع ما يقتضيه البرهان وتقتضيه الطريقة العقلائية، فلا أتكلَّف ما قد كُفيته، لأنه فضولٌ وعناء بلا داعٍ وبلا مبرِّر، ولا أضيِّع ما وليته، إذ أنَّ هذا التضييع ينافي الحكمة، إذ أنه قد أوكلت إليَّ مهمة وعليَّ أن أُحسن تدبير هذا الأمر، فضيَّعته وجعلتُه يذهب ويفوت، وكان الأجدى بي أن أُحسن تدبيره، وأُتمَّه على أوفق وجه.
هناك رواية أخرى: (من الحكمة أن لا تتعاطى ما ليس في قدرتك، ولا يخالف لسانك قلبك، ولا تتكلَّم فيما لا تعلم، ولا تترك الأمر عند الإقبال، ولا تطلبه عند الإدبار)(۷) وقال الإمام السجَّاد عليه السلام (رأس الحكمة مخافة الله)(۸) وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (رأس الحكمة تجنُّب الخدع)(۹) وقال رسول الله (ص): (الرفق رأس الحكمة)(۱۰) وكلُّ هذه المعاني التي ذُكرت في هذه الروايات هي بيانٌ لمصاديق الإنسان الحكيم.
 

الارتباط بين الصوم والحكمة
ونشير في نهاية الحديث إلى ما هي العلاقة بين الصوم وبين الحكمة؟ إنه قد لا يلحظ وجه للعلاقة بين الحكمة والصوم، الرواية الشريفة تكشف عن وجود ارتباطٍ وثيق بينهما، قال رسول الله (ص) في حديث المعراج: إنَّ الله عز وجل قال له في -حديث قدسي-: (يا أحمد، إنَّ العبد إذا أجاع بطنه، وحفظ لسانه، علَّمتُه الحكمة، وتكون حكمته نوراً وبرهاناً)(۱۱)، وفي رواية أخرى عن الإمام علي عليه السلام: (التخمة تُفسد الحكمة، والبِّطنة تحجب الفِّطنة)(۱۲)، وقال عليه السلام: (القلب يتحمَّل الحكمة عند خلوّ البطن، والقلب يمجُّ الحكمة عند امتلاء البطن)(۱۳).
وهذه مسالة وجدانية، فهناك ثلاث قوى في النفس: القوة العاقلة، والقوة الغضبيَّة -المعبر عنها بالقوة السَّبُعية-، والقوة الشهوية. وهي قوى متغالبة -كما يقول علماء الأخلاق والفلسفة العملية- هذه قوى متغالبة، فعندما تطغى القوَّة الشَّهوية فإنَّ القوَّة العاقلة تضعُف، وأشارت الروايات إلى ذلك -كلَّما قويت الشهوة ضعُف العقل، وكلَّما قوي العقل ضعُفت الشهوة-، هاتان قوتان في النفس متغالبتان، فالإنسان إذا امتلأ بطنه من بالطعام، وامتلأت نفسه بحب الشهوات، وأقدم على حبِّ ما يُلهي وما تلتذُّ به النفس، عندئذ يضعف عقله، وضعف العقل هو ما ينافي الحكمة.
ـــــــــــــــ
۳- وهو عبارة عن مجموعة من الرِّوايات نقلها لنا رسول الله (ص)، وهي مجموعةٌ من المعارف تلقَّاها عن الله -جلَّ وعلا- حينما عرج به إلى السماء، فنقل لنا ما شاهده، وما تلقاه عن الله -جلَّ وعلا-.
4- بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ۷۴ ص ۲۷٫
5- الجهل المركب: هو أن تجهل شيئا، وتجهل بأنك تجهله.
6- بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ۱۳ ص ۴۱۵٫
۷- ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ۱ ص ۶۷۳٫
۸- من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج ۴ ص ۳۷۶٫
۹- ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ۱ ص ۶۷۳٫
۱۰- بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ۷۲ ص ۳۵۲٫
۱۱- بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ۷۴ ص ۲۹٫
۱۲- ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ۱ ص ۶۷۴٫
۱۳- ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ۱ ص ۸۹٫
14- عيون أخبار الرضا (ع) – الشيخ الصدوق – ج ۱ ص ۷۴٫
15- من لا يحضره الفقيه – الشيخ الصدوق – ج ۴ ص ۳۷۶٫
16- ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ۱ ص ۶۷۳٫
۱۷- سورة البقرة آية رقم ۲۶۹٫
۱۸- الكافي – الشيخ الكليني – ج ۲ ص ۸۶٫
۱۹- سورة العنكبوت آية رقم ۴۵٫
۲۰- مستدرك سفينة البحار – الشيخ علي النمازي الشاهرودي – ج ۶ ص ۳۴۳٫
۲۱- سورة البقرة آية رقم ۱۸۳٫
۲۲- الأمالي – الشيخ الصدوق – ص ۱۰۲٫
۲۳- وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج ۲ ص ۴۳۳٫
24- بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ۵۹ ص ۲۶۷٫

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد