مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
إيمان شمس الدين
عن الكاتب :
باحثة في الفكر الديني والسياسي وكاتبة في جريدة القبس الكويتية

كربلاء ومعايير النصر والهزيمة

قد يكون المكان جغرافيًّا ليس ذا ثقل يعتدّ به وفق الحسابات الجغرافية في العقل السياسي، وقد يكون ديموغرافيًّا لا يشكل خطرًا وجوديًّا في حسابات القوة والضعف والربح والخسارة في الذهنية السياسية، وقد يكون عسكريًّا ليس بعديد مقلق لخصمه .

إذًا لماذا كل هذا الضجيج حول الحسين عليه السلام؟

المسألة ليست كمية أبدًا في ثقلها وأهميتها، فرغم اعتيادنا تاريخيًّا على الكم بل سلوكنا استراتيجيًّا عليه، إلا أن المسألة في كربلاء لها بعد نوعي خاص يجعلها ثقلًا في ميزان الكيف، رغم ضحالتها في موازين العقل الكمي في ذاك الزمن وفي زماننا. إنها حركة نوعية غيرت مسار التاريخ، وأثقلت قراءه بالذهول، فمن أي زاوية ينظرون لها، وكيف يمكنهم تصنيفها وفق التصنيفات العلمية الحديثة؟

كيف يمكن للعقل الكمي والرأسمالي أن يقرأ هزيمة كهذه بأنها شكلت مفصلًا تاريخيًّا غيّر المسار ودك مدامك حكم كان فتيًّا في خطواته في السلطة؟ بأي معيار انتصر الحسين عليه السلام؟ وكيف لثلة بهذا العدد القليل أن يتم إبادتها بكلها وكلكلها أن تضرب جذورها بعمق في تاريخ الانتصارات وصناعة الثورة؟ والإجابة على سؤال وجودي هو: كيف تكون إنسانًا؟ كيف تكون مظلومًا فتنتصر رغم الموت؟

ما زال الكتاب والمفكرون يكتبون، وكلما توغلوا في ثورة كربلاء، اكتشفوا أنهم ما زالوا على السطح وأقدامهم غير قادرة على الثبات في رمالها المتحركة فكريًّا وتاريخيًّا. ثورة بحجم الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه، لا يمكن أن تنضب قصصها وعبرها ومدارسها، فكلما تراكمت المعرفة واتسعت مدارك العقل، اكتشفنا هذه الثورة وسبرنا أغوارها. إنها مدرسة بنبض حي لا ينضب معينها، أو يجف ماؤها العذب، هي ملهمة للجميع دون استثناء.

 

فلو تخيلنا المشهد من الفضاء كنا سننظر إليه كبقعة صغيرة جدًّا في مساحتها، يتقاتل عليها بشر لا نكاد نرى أحجامهم لصغرها بمنظار علوي فضائي كمن ينظر إلى الأرض من القمر، ولكن الحقيقة أن هذه البقعة الجغرافية الصغيرة، صنعت تاريخ هذه الأرض، وهذه الأحجام الصغيرة وفق منظور العين الحسية، شكلت معالم الإنسان من بعدها، ليصبح من خلالها عملاقًا حينما يقول “لا” لكلّ سلطة تشبه يزيد، وحينما يرفض أن يبايع مَن على النهج ذاته، إنها “لا” الرافضة للظلم والاستبداد، إنها “لا” الصانعة للعزة والكرامة، والساعية على درب الإصلاح لا أشرًا ولا بطرًا …

هي “لا” المقرّة بالألوهية لله وحده، النافية عنه كل شريك، إقرارًا طهّر تلك النفوس الكربلائية بماء التوحيد الخالص، بحيث آثروا بهذه ال ”لا” الله على أنفسهم وجسدوا مصداق "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم"، وحيث حدّد النبي "ص" المسار في مسيرة الصرط قائلًا: "حسين مني وأنا من حسين"، فبات الحسين يكسب ذات المقام في التولي والتبري والإيثار، إيثار الحسين على النفس ليكون هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فالقلة العددية هنا تكتنف قوة معنوية استطاعت أن تتحرر من كل متعلقاتها الدنيوية والمادية، بل تتحرر من كل مخاوفها، فلا يعيقها في طريقها إلى الله لا مال ولا ولد ولا مسكن ولا شيء فقد قال الله تعالى :"قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة ٢٤).

فحينما اشتد الحب في قلوب الكربلائيين وتلألأت كلمة ”لا” أصبح الله أشد حبًّا في قلوبهم، وحينما يشتد الحب تنجذب القلوب للجهة المنشدة إليها، ويصبح وجودهم كله متوهجًا بمعالم هذا الحب منهجًا وسلوكًا ومعايير. وتحقق الوعد الإلهي "لأغلبن أنا ورسلي" غلبة ليست وفق معايير الكم ومعايير المادة، بل غلبة تتحقق إذا ما توفرت الشروط التي هي مدار إرادة الإنسان في تحقيقها وتوفيرها، غلبة منهج وصراط وسبيل للوصل من خلال أقصر الطرق إلى الله تعالى .

 

فقال الله تعالى  "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ". (البقرة ١٦٥)  فالمعيار هنا معيار القرب من الله ومدى تجلي الوجود الإلهي في الوجود الإنساني، فكلما ازداد تجلي الله تخلّصت النفس من المتعلقات الدنيوية، وباتت أكثر قدرة على تقديم الله على كل إِنيَّتَها، لذلك نجد مجتمعات تضحي بإقدام لأجل الحق وطريقه، ولأجل كرامة الإنسان، وتحقق كل موازين الغلبة وشروطها، وتعدّ ما استطاعت من قوة لترهب بها عدو الله، ومجتمعات لا تملك حتى قرار نفسها، بل هي رغم ظاهرها المؤمن، إلا أنها غير قادرة على التحرر الثوري .

ففي كربلاء إعادة لرسم موازين ومعايير الأرض وفق إرادة السماء،حيث المعركة باتت بين التيار الإلهي والتيار المادي، معركة بذل فيها التيار المادي كل ما يملك من مكر سياسي في عملية الهدم المنهجي لثقافة الأمة وهويتها، فحول بوصلتها نحو الأرض بعد أن كانت نحو السماء، ثم أسقط القدوة التي تحدثت عن مشروع الله في الأرض وفق إرادة الله، ثم انقض على ما هو من موجود من بقايا أفكار حول الله ومحمد (ص) والمعاد.

في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة حجمًا، تجلت ثقافة التيار المادي وفهمه للدين الذي صنعه فقهاء السلطة بأموال المسلمين التي سيطرت عليها تلك السلطة، بعد أن قامت ببناء شبكة لوضع الحديث على لسان النبي (ص)، وبعد أن منعت سابقًا وجرّمت كل من ينقل أو يروي حديثًا عن لسان النبي (ص) خارج نطاق هذه الشبكة التي شرعنتها السلطة، وهي شرعنت ملك السلطة العضود باسم الدين الذي صنعوه وفق مقاسات حكام تلك الأزمنة، فكان قطع الرؤوس ثقافة رسختها تلك السلطة بحجة الخيانة والخروج عن ولي الأمر الذي نصبته فتوى فقيه السلطة على رقاب الناس، ليصبح الخروج عليه خروجًا على الله، والخروج على الله يستوجب النحر انتصارًا لله.

 

ففي كربلا يوم عاشوراء، تجسدت البشاعة في الذبح وقطع الرؤوس تحت نداءات الله أكبر اقتلوا أعداء الله. فهل كان سبط النبي الحسين عدوًّا لله ليحز رأسه؟ إنها شعارات داعش اليوم وسلوكها، كجيش يزيد حينما قتل سبط النبي (ص)، بل قال بعضهم عجّلوا قتل الحسين كي نلحق بصلاة الجماعة...

اليوم يواجه جيش يزيد، جيش الحسين (ع) متمثلًا بكلّ مقاوم شريف، وستدور رحى المعركة، لكنّ المفارقة أن الحسين (ع) ليس وحيدًا، وحينما ينادي هل من ناصر ينصرنا، سيجد حوله رجالًا لله إذا أرادوا أراد..

الحسين (ع) أراد بالإصلاح أن يعيد النصاب للمعيار الإلهي، كي تعتدل العقول فترى الواقع كما هو، لا كما رسمته الحكومات الظالمة لتحمي سلطانها .وإن انحراف الأمة وصل إلى مرحلة، بدا فيها الإصلاح الثوري هو الخيار القادر على الحفاظ على ما تبقى من معالم المشروع الإسلاميّ من جهة، وإحياء ما تبقّى من ضمائر في وجدان الأمة من جهة ثانية .

وما أشبه حالنا اليوم بحال المجتمع الذي وقعت فيه ثورة الحسين عليه السلام، فهم رغم بكائهم على الحسين عليه السلام، إلّا أنهم خذلوه، ولم ينصروه وتركوه وحيدًا في كربلاء ينازع الموت لأجل حياتنا بكرامة، لأنهم لم يتحرروا من القيود والمتعلقات ولم يكن الله في قلوبهم أشدّ حبًّا .ففي كل بقعة يحكمها ظالم بمنهج يزيدي يكون الشعار "مثلي لا يبايع مثله"، كون السير على الصراط لا يقبل بأنصاف الحلول، وفي تلك البقعة تعلو كربلاء فوق كل صوت ليكون هنا الفداء وهنا الولاء وهنا يطيب الموت تحت عرش الله، ولأجل حقّه وتحقيق كرامة الإنسان التي هي عطاء الله الذي لا يحق لمخلوق سلبه عنه.

فتجسيد بأبي أنت وأمي ومالي ونفسي يكون بتطبيق ذلك على أرض ميدان الدنيا محل ابتلاءنا واختبارنا. وهو ما يتطلب أن لا يكون شيء أحب إلينا من الله والجهاد في سبيله وإعلاء كلمته. فالسلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيًّا .

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد