الموسم العاشورائي 1446 هـ

الشيخ فوزي آل سيف: "قضية الحسين: الشعور والشعائر"

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله عليك يا سيدي ويا مولاي يا أبا عبد الله الحسين، ما خاب من تمسك بكم وأمن من لجأ إليكم، يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزًا عظيمًا.

كم يا هلالَ محرمٍ تُشجينا... ما زال قوسك نبلُه يرمينا

كلُّ المصائبِ قد تهون سوى التي... تركت فؤادَ محمدٍ محزونا

يومٌ به ازدلفتْ طغاةُ أميةٍ... كي تَشفينَّ من الحسين ضغونا

نادى ألا هل من معين لم يجد... إلا المحددةَ الرقاقَ معينا

فهوى على وجه الصعيد مبضعًا... ما نال تغسيلًا ولا تكفينا

وسروا بنسوته على عُجُف المطا... تطوي سهولًا بالفلا وحزونا

أو مثلُ زينبَ وهي بنت محمد... أمست تخاطب شامتًا ملعونا

فغدا بمحضرها يوسم مبسمًا... كان النبي برشفهِ مفتونا

"أنا ويني وين الدواوين، أنا ويش أسويه، أهلي عني بعيدين

 أنا لا عباس يبرالي ولا حسين، يضربوني منبكي وتهمل العين"

"لكنما الأمر لله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إنا لله وإنا إليه راجعون. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين".

 

"عن معاوية بن وهب قال: سمعت الإمام الصادق (عليه السلام) يقول في سجوده: اللهم ارحم تلك الوجوه التي غيرتها الشمس (يقصد زوار الحسين) وارحم تلك الخدود التي تقلبت على قبر أبي عبد الله (عليه السلام) وارحم تلك الأعين التي ذرفت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت لما أصابنا...

صدق سيدنا ومولانا أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (صلوات الله وسلامه عليه). نحمد الله سبحانه وتعالى أن أكرمنا بأن بلغنا هذا الموسم الحسيني الجديد ونحن في خير وعافية، ونسأل الله أن يتمم علينا ذلك بتمام نعمته في أمن وأمان وإيمان، إنه على كل شيء قدير.

نترحم أيضًا على من مضى في هذه السنة التي انصرمت، وربما كانوا يحضرون في هذا المسجد والمأتم أو غيره، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشركهم في أعمالنا وفي مأتمنا وفي بكائنا وحديثنا، إنه على كل شيء قدير.

نتحدث هذه الليلة في موضوع بعنوان "قضية الحسين بين الشعور والشعائر".

قضية الحسين (عليه السلام) وما يتبعها من الآثار تبدأ بنقطة المعرفة، أي أن يتعرف الإنسان على شخصية الحسين (عليه السلام) وعلى تضحيته في سبيل الله، وعلى المأساة التي حلت عليه وعلى أهل بيته من أجل دين الله، ومن أجل المؤمنين بهذا الدين (وهم أمثالنا).

ضحى الحسين (عليه السلام) لأجل أن يبقى هذا الدين غضًّا طريًّا صافيًا، ويصل إلينا في هذا الزمان. ولولا تلك التضحية ولولا ذلك العطاء، لوصل إلينا هذا الدين مشوهًا للغاية، بل ربما لم يكن قد وصل إلينا.

 

النقطة الأولى:

أول نقطة بالنسبة إلى الإنسان هي نقطة معرفة الإمام الحسين (عليه السلام) في شخصه، وفي قيمته، وشأنه، وفي تضحيته، وعطائه. فإذا تعرّف الإنسان على الحسين بهذا المعنى، حتى لو لم يكن من أتباع أهل البيت بالمعنى الخاص، فإن هذا لا شك يهتدي إلى طريق الحسين وإلى منهاجه (صلوات الله عليه). لقد رأينا في قصص الكثيرين ممن توصلوا إلى منهاج محمد وآل محمد أن بداية حركتهم، ورحلتهم: معرفة الحسين (عليه السلام). بعضهم ألّف في ذلك كتبًا منها: كتاب "لقد شيّعني الحسين عليه السلام". فإذاً أول نقطة هي نقطة المعرفة.

يترتب على هذه المعرفة تحرك شعور داخلي قلبي عند الإنسان السوي وسليم الفطرة باتجاه التفاعل مع الإمام الحسين، محبة الإمام الحسين، الحزن على ما أصابه وأصاب أهل بيته وأصحابه. الإنسان السوي والإنسان السليم في فطرته إذا عرف الإمام الحسين ومنزلته ومأساته وكان له قلب سليم، لا ريب أنه يتحرك في اتجاه التفاعل الشعوري مع الإمام الحسين (عليه السلام)، يحزن لما أصابه، و يتألم لما جرى عليه.

نلاحظ في الروايات أن مجرد لفتة من اللفتات من قبل نبيّ من الأنبياء أو وصيّ من الأوصياء أشاروا إلى موضوع كربلاء، فلا شك أنه تتحرك عاطفتهم ويزداد ألمهم.

روايات كثيرة وردت في هذا الصدد، فعلى سبيل المثال: "عيسى بن مريم" عندما مرّ على كربلاء ذكر مجرد ذكر فقط، ذكر ما يجري على الحسين عليه السلام فسالت عيناه بالدموع. وهكذا غيره من الأنبياء والأوصياء والأولياء، والحديث في هذا يطول لو أردنا استعراض ذلك.

فإذاً أول حركة هي حركة "شعور الحزن"، يتفاعل الإنسان السليم في فطرته مع قضية الحسين باستشعار الألم، باستشعار الحزن، واستشعار حجم الكارثة التي وقعت. هل لهذا محدد؟ كلا. قسم من الناس يتفاعلون بعشر درجات، قسم آخر منهم يتفاعلون بدرجة 100، وقسم أكثر أو أقل. في هذا المعنى لم تحدد الروايات والفتاوى حدًّا في أن يحزن الإنسان على الإمام الحسين، وأن يتحرك قلبه حزنًا لما أصابه حتى إلى درجة الجزع.

الجزع في غير موضوع الحسين أمر مذموم، وغير جائز (الجزع في المصيبة). مثلًا إنسان توفيّ والده أو ولده أو زوجته أو عزيز عليه، فيجزع بمعنى يفقد الصبر، يضرب على فخذه بقوة، غير صابر أو يلطم على وجهه. هذا الفعل مذموم في الشرع، أن تصنع هكذا بالنسبة إلى أبيك أو بالنسبة إلى أمك أو بالنسبة إلى أخيك أو بالنسبة إلى عزيز عليك، إلى درجة فقدان الصبر وحلول الجزع هذا أمر مذموم في الشريعة الإسلامية، إلا في الحسين.

لدينا في الرواية المعتبرة سند، وعليها فتاوى العلماء، تقول الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام): "كل الجزع مكروه إلا الجزع على الحسين (عليه السلام)". الجزع على الحسين أن يفقد الإنسان قدرة التصبّر على المصيبة، أن يصفع على فخذه مثلًا، أو أن يلطم على رأسه. هذا الفعل لو قام به الإنسان من أجل عزيز عليه يقال له: "لا تصنع هذا" لكن لا بأس في ذلك حزنًا على الحسين.

كلّ الجزع مكروه، والكراهة هنا هي حكم إلزامي وليست كراهة اصطلاحية. كل الجزع مكروه إلا على الحسين بن علي عليهما السلام. فإذًا جانب المشاعر بالإمكان أن تأخذ فيه ما تشاء بهذا المقدار من حركة القلب واستشعار الحزن على الإمام (عليه السلام). ولا تعتبر أن ما تصنعه من الحزن وذرف الدموع والبكاء وما شابه ذلك أنه شيء زائد أو فوق المعدل، كلا فإنه وصل إلى درجة أن الإمام الصادق يستغفر لأصناف من الشيعة، منهم زوار الحسين الذين أحرقت الشمس وجوههم، وأيضًا يترحم على تلك القلوب التي جزعت لنا. هذا يبين لنا كيف أن الجزع من جهة مكروه، ومن جهة الإمام يترحم على القلوب الجازعة، والجواب على ذلك هو تخصيص في قضية الحسين (عليه السلام). فإذًا الجزع في الحسين إلى درجة المبالغة في البكاء، والمبالغة في الحزن، لا بأس بذلك.

 

النقطة الثانية:

"الشعور تجاه الحسين بتعبير اللسان"

الإنسان من الممكن أن يعبّر عن ألمه وعن أحزانه تارة بالدمعة، وأخرى بخشوع القلب، وثالثة بالكلام، سواء كان كلامًا منثورًا أو كان كلامًا منظومًا كالشعر. فالشعر أيضًا واحد من أنحاء التعبير عن الحزن عما جرى على الإمام الحسين عليه السلام. الشعراء ينشدون قصائد في تعبيراتهم عن الحزن (عليه السلام) مع أن اللحن العام في الشعر فيه مذمة في القرآن الكريم "والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون". وفي بعض الأحاديث بهذا المعنى "لأن يمتلئ قلب الإنسان قيحًا أولى من أن يمتلئ شعرًا". هذه اللهجة العامة تجاه الشعر إلا موارد، "إلا الذين آمنوا"، إلا ما كان شعرًا هادفًا، إلا ما كان في مثل الحسين (عليه السلام). "فإنه من قال شعرًا فبكّى 100 فله الجنة، بكى 50 فله الجنة، بكى 20 فله الجنة إلى أن يصل ومن قال شعرًا فبكى واحدًا فله الجنة". طبعًا نحن ذكرنا في سنوات ماضية أن هذه الجزاءات هي على نحو الاقتضاء وعدم وجود الموانع.

الشعر أيضًا عندما يكون شعرًا هادفًا، عندما يكون شعرًا معقولًا يحصل به الإنسان على هذا الثواب. هذا الشعر فيه محددات، المحددات الخاصة كما تذكر الفتاوى عن العلماء والمراجع.

أولًا: أن لا يكون في حدّ الغلوّ ولا التقصير مرة.

أن يقول الإنسان شعرًا يوصل المعصوم إلى درجة الإله (والعياذ بالله)، في مثل هذا لا ينال ثوابًا بل إذا توجه إلى ما يقول وتعمد ذلك ينال العقاب.

إذا كان لدى الإنسان علم بأن هذا البيت من الشعر الذي ينشد فيه غلو ويتجاوز حدود البشر إلى ربّ البشر مع العلم بأنه غلوّ وأنشده، فإنه يعاقب ولا يثاب عليه، لا بالجنة ولا بغيرها. العقاب هنا بسبب اقتحام كبرياء الله والتعديّ على حرمة الله.

أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فخرهم أنهم كانوا أعبد عباد الله وأكثر خلق الله تواضعًا في محضر الله (عز وجل).

أحد الأشخاص يدخل على الإمام الصادق، وتدور في ذهنه بعض الأفكار التي فيها جانب غلوّ فيلتفت إليه الإمام الصادق وقد علم ما يدور بخاطره يقول له: "لا بل عباد مربوبون". لا بد أن لا نصل لحد الغلوّ.

 

النقطة الثالثة:

كذلك لا بد أن لا نصل إلى حد التقصير في الشعر، مثلًا الشعر الذي يستنتج منه مهانة في حق المعصوم. أحدهم كان ينشد شعرًا، ولعله "أبو هارون المكفوف" فمرّ عليه "السيد إسماعيل الحميري" وهو من الشعراء المبدعين والفخام. فقال له: "أنت الذي تقول في حق أهل البيت:

 ما بال بيتكم يخرب سقفه

 وثيابكم من أرذل الأثواب"

أن تقول في حق الأئمة هكذا، طبعًا قد يكون في ذهنه مثلًا تصوير وتبيان مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) وأنهم كانوا هكذا، فقال بيوتكم مخربة السقوف وثيابكم ثياب رذله. قال له: "أنت تقول هكذا! قال: نعم؛ قال: لا تقل هكذا ولكن قل هكذا:

أقسم بالله وآلائه والمرء عما قال مسؤول

إن عليًّا ذا التقى والنّهة على الخير والبرّ مجبول

ذاك الذي سلم في ليلة عليه جبريل وميكال

جبريل في ألف وميكال في ألف ويتلوه اسرافيل"

علي بن أبي طالب في أعلى الدرجات تسلم عليه الملائكة كما ورد في الروايات.

وفي بعض غزواته، تأتي وتقول لهم وثيابهم من أرذل الأثواب! هذا لا يناسب، فكما أنّ الغلوّ في ذلك الجانب، أن ترفع هذا الإمام في شعرك إلى الدرجة التي يلامس فيها حدود الباري (سبحانه وتعالى) هذا غير حسن.

 كذلك أيضًا التقصير في حقهم بإيجاد بعض المعاني التافهة والنازلة والدانية، هذا مرفوض وذاك مرفوض. هنا نود أن نلفت نظر الأخوة الرواديد، والحمد لله أكثرهم هم في هذا المنهج القويم والمستقيم، بل والشعراء أيضًا، أن ينتخب الرادود ما هو الحسن من الشعر في معانيه وما هو المؤثر في قلوب الناس خصوصًا أن الرادود يخاطب الفئة العريضة، وهي فئة الشباب. فأنت أيها الرادود عليك مسؤولية كبيرة، ربما المنبر يستمع إليه ألفان بينما الرادود قد يستمع إليه عشرات الآلاف.

ولا سيما مع التسجيل وتروح هذه الردات والقصائد مع الزمان. إذا كانت حسنة ونافعة، على سبيل المثال عندما تسمع القصيدة الخالدة "يا حسين بضمائرنا، صحنا بيك آمنا" عندما تسمعها تهزك من داخل وجدانك، مع أنه مرّ عليها الآن نحو أربعة عقود أو خمسة عقود من الزمان. نصف قرن ربما مرّ عليها ولكن مع ذلك لا تزال تهز وجدان الإنسان في معانيها وفي ألفاظها.

الشعر فيه محدد في المعنى، لا يصح أن يتجاوز بالمعصوم حدّ البشر إلى حدّ الإله، وكذلك أيضًا لا ينبغي أن يُسفَّ به ويقصر في حقه وهذا أمر آخر.

تطور هذه التعبيرات عن الألم والحزن والمأساة الحسينية من شعور داخلي قلبي إلى تعبير لسانيّ منظوم أو منثور، إلى أمور خارجية. افترض في المظهر، مظهر الإنسان، لباس السواد وتعليق السواد هذه أيضًا إشعار بالحزن والألم. أنت ترى اليوم في كل أرجاء الدنيا، هذه الليلة تحتفي بموسم الحسين بأن تلبس ثياب السواد. هذا تعبير عن الحزن في الهيئة الشخصية في البيئة العامة.

 

النقطة الرابعة:

 كذلك أيضًا ما يرتبط بالمواكب والعزاء واللطم وغير ذلك مما يحسب من شعائر الحسين (عليه السلام). وفقنا الله وإياكم لإقامتها بأحسن الأنحاء، ينبغي للإنسان المؤمن ولشيعة أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الأيام أن يصنعوا في هذه الشعائر أقصى ما يستطيعون من إظهار الحزن والمأساة والتفجع والتوجّع لما أصاب الحسين (عليه السلام).

المجلس الحسيني والموكب الحسيني واللطم الحسيني إلى غير ذلك من الأمور، هذه أيضًا لها محددات. لا يمكن للإنسان أن يفكر ما دام الغرض منه الإمام الحسين، إذاً كل شيء ممكن. لا، نحن نتبع مراجع التقليد وعلماء الإسلام في صلاتنا وصومنا وحجنا وشعائرنا وحزننا وفرحنا فيما يرتبط بالمسألة الدينية، هنا له محددات أيضًا.

 

هذه الشعائر لها محددات:

المحدد الأول:

هو الفتوى الشرعية أن بعض ما يسمى بالشعائر، مثل ما يرتبط بقضايا الموسيقى والغناء وما شابه ذلك. "إنسان يجي ويسوي إله فد هرجه (هرجه بمعنى البدعة) من هذا النوع على أن هذه شعائر الحسين"، كلا، هذا لا يقرّه العلماء، بل كما سيأتي فيما بعد هذا على خلاف غرض الحسين وهدف الحسين وما قام من أجله الحسين (عليه السلام).

هذا منكر، والحال أن الحسين إنما خرج لتغيير المنكر، فإذا بنا نأتي بالشيء المنكر في عرف الدين، ونظهره بمظهر من مظاهر الشعائر! لا يمكن أن يكون كذلك. فالفتوى الدينية الشرعية من المراجع والعلماء هي محددة لكيفية وحجم الشعائر الحسينية. لا يأتي إنسان ويزعم أن المرجع مثلًا لا يفهم أو أن ولاءه قليل أو غير ذلك.

الفقيه ما دام فقيهًا، لا يستطيع أن يتحرك شبرًا واحدًا، بل سنتيمترًا واحدًا، خارج المحددات والقواعد الشرعية. الحدّ الأول هو حدّ الفتوى الشرعية الدينية.

 

المحدّد الثاني

الحد الثاني توافقها مع أغراض وأهداف الإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) وكون هذه الشعائر مما يجذب الناس إلى منهاج الحسين ويضيء صورته ويشرق بوجهه المشرق.

بل على العكس، المطلوب منا في هذه الشعائر أن نجذب الناس غير شيعة أهل البيت إلى منهاج الحسين، أن نلفت نظرهم إلى هذا الإمام الذي غيّب منهجه خلال فترة طويلة من الزمان. من خلال هذه الشعائر ينجذب الناس، إذاً لا بد أن تكون هذه الشعائر منسجمة مع مبادئ الدين، مع قيم الإسلام، ومع أهداف الحسين (عليه السلام)، لا تكون هي مُنكرة أو مستنكرة حتى تجذب الناس. الناس إنما ينجذبون في حال كان شيء معروف، ويمكن أن يُعبرَ عن نفسه. ليس بالضرورة أن نصنع كل ما يريده الناس! لا ينبغي أن يفهم أو يفعل هذا الأمر لأن بعض العامة تطلبه ونحن نلبي رغبتهم، ليس هذا المقصود، وإنما أن يكون الناظر العاقل إلى مثل هذه الشعائر، أن تثير في داخله على الأقل السؤال، لماذا يصنع هؤلاء هذا الأمر؟ وما هي قضيتهم؟ ومن هو الحسين؟ وما شأنه؟ لا أنه يثير في أذهانهم الاستهجان والبعد عن السؤال واستنكار ما عليهم هؤلاء أتباع الحسين (عليه السلام). فهذا أيضًا محدد آخر.

 

المحدد الثالث

هو مراعاة النظام الاجتماعي العام. بعض الأمور، مثل الحزن القلبي، لا يرتبط هذا بالنظام الاجتماعي العام، قد أقول قصيدة، قد لا ترتبط بالنظام الاجتماعي العام، ولكن إذا ارتبط أمر ما بالنظام العام، علماؤنا مراجعنا يوصّون بلزوم اتّباع الأنظمة التي وُضعت لمصلحة المجتمع. فإذا أنا أتيت وقلت لا أنا أريد الذي يحركني و يهيّج مشاعري وما أحس به في قلبي ولا يهمني أحد، في هذه الحالة من الممكن أن تصادف هذه الشعائر التي فرض أنها تصادم النظام الاجتماعي العام من الممكن أن تكون سببًا إلى منع وإلغاء الكثير من الأمور المشروعة والطبيعية. لذلك يوصي علماؤنا بإقامة الشعائر، بتكثيرها وبتكثيفها، مع الملاحظة والالتفات إلى عدم إثارة الفوضى وعدم مواجهة النظام الاجتماعي القائم.

بالحفاظ على النظام الاجتماعي القائم تسير هذه الشعائر وهذه المراسم بالشكل الأفضل. إذًا هناك في الشعائر التي هي ذات منحى اجتماعي ذات جهة اجتماعية، ينبغي ملاحظة هذه الأنظمة العامة ويوصي علماؤنا بمثل هذا الأمر من أجل أن تستمر هذه الشعائر وأن تتكثف وأن تكثر.

نسأل الله (سبحانه وتعالى) أن يوفقنا في هذا الموسم وفي غيره من المواسم لإقامة شعائر الإمام الحسين (عليه السلام) بأفضل ما يمكن وأحسن ما يمكن وأكثر ما يمكن، إنه على كل شيء قدير ببركة محمد وآل محمد. اللهم صل على محمد وآل محمد.

أئمتنا (صلوات الله وسلامه عليهم) هم كانوا إذا حلّ شهر محرم يبدأون بالبكاء على أبي عبد الله الحسين. لا ليس إذا بدأ شهر محرم، بل قبل أن يأتي محرم الحرام بنحو نصف قرن من الزمان، بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا عبد الله الحسين. الرواية التي تنقلها مصادر المسلمين أن الإمام الحسين دخل على بيت رسول الله، ولعله في ذلك الوقت كان في عمر أربع سنوات أو نحوها، ورسول الله كان قد دخل وأخبر أم سلمة (رضوان الله تعالى عليها) أنه يدخل إلى الدار لكي يستريح قليلًا. فإذا بالحسين (عليه السلام) ببيت الزهراء بجوار بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، جاء الحسين (عليه السلام) ويعرف دار النبي (صلى الله عليه وآله)، فدخل مباشرة إلى تلك الغرفة. تقول أم سلمة لم أستطع أن أمسك الحسين (عليه السلام) عن الدخول، فقلت: بعد قليل أدخل إليه وأخذه من داخل الدار. فلما دخلت عليه، وإذا برسول الله يبكي بأبي وأمي وتسيل دموعه على خده وشيبته وقد وضع الحسين على صدره محتضنًا الحسين على صدره ويقبل تارة صدر الحسين وأخرى يقبل نحر الحسين ويقول: عزيز عليّ أبا عبد الله، عزيزٌ عليّ أبا عبد الله، يعني صعب عليّ أن أتصور ما الذي سيجري على هذا الصدر من التهشيم وعلى ذلك النحر من الحزّ، وهو يبكي بأبي وأمي وكأنه يستحضر قول الشاعر:

"يومان لم ترنِ الأيام مثلهما

يوم أسر ويوم زادني أرقا"

(اليوم الذي أسر هو يوم صعد الحسين عليه السلام على صدر رسول الله، واليوم الذي زادني أرقًا ما هو؟ يوم الحسين على صدر النبي غدا ويوم شمر على صدر الحسين رقى).

 

النبي صلى الله عليه وآله قبل هذا قبل مصرع الحسين بنصف قرن من الزمان وهو يبكي ويتأسف ويتأثر "عزيزٌ عليّ أبا عبد الله". هذا أول ما سمع من تكنية رسول الله للإمام الحسين (عليه السلام) فيما قال بعضهم. وأما الزهراء (عليها السلام)، فإنها بعدما ولدت الحسين وجاءت به إلى هذه الدنيا أخبرها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عما يجري عليه فشغلت يومها بالبكاء والنياحة على أبي عبد الله الحسين. وهكذا أمير المؤمنين والحسن، وهكذا زين العابدين الذي أمضى بقية عمره دائم الوقت، إذا قُدم له طعام أو شراب يقول: كيف أشرب؟ يستغرب على نفسه شلون يشرب سيدي، لا بد أن تشرب لكي تعيش في هذه الحياة. كيف أشرب وقد قتل ابن رسول الله عطشانًا؟ أم كيف آكل وقد ذبح ابن رسول الله جائعًا؟

وهكذا كانت سيرته وهكذا سيرة سائر الأئمة. إلى أن تأتي إلى الإمام الرضا في روايته المعروفة للريان بن شبيب وسمعتموها مرارًا وهو يقول: "يا ابن شبيب إن كنت باكيًا لشيء فابك للحسين". لماذا سيدي أمير المؤمنين، جدك أيضًا طُبر على رأسه بالسيف، الحسن سُمّ وهكذا سائر الأئمة (عليهم السلام)... ليش سيدي الحسين؟ يعلّلها الإمام يقول: "فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش". ذُبح أيها الأخوة، تعلمون غير قتل، قتل يعني من الممكن أن يُرمى بسهم وأن ينزف دمًا ثم يموت. هذا يقال له قتل، أو يضرب بالسيف وينزف ويموت، لكن ذبح يعني وهو حيّ يُحزّ رأسه بالسيف.

 

"إن يوم الحسين أسبل دموعنا، وأقرح جفوننا". هذا كلام الإمام، الإنسان عندما يبكي بكاء كثيرًا تتقرح عينه من كثرة البكاء "وأقرح جفوننا وأذل عزيزنا". من ذاك العزيز يا سيدي؟ تلك المرأة التي شبكت شعرها على رأسها وصاحت وصاحت اليوم مات جدي رسول الله، اليوم ماتت أمي، اليوم قضى أبي، اليوم مات أخي الحسن. يعني كلهم هاليوم في كربلاء ماتوا بموت الحسين. اتجهت جهة المدينة: يا جداه يا رسول الله، صلى عليك مليك السماء. هذا حسينك بالعرا، محزوز الرأس، مو من أمام، ها، محزوز الرأس من القفا، وبناتك السبايا، وإلى الله المشتكى.

يجدي مات محد وگف دونه

اولا نغار غمض له اعيونه

آه ... آه

ايعالج بالشمس منخطف لونه

ولا واحد ابحلگه ماي گطر

يا جدي مات محد مدد ايديه

يا جدي ولا واحد عدل رجليه

آه ... آه

وتارة تنثني تدعو عشيرتها

من شيبة الحمد أشياخًا وشبانا

هذا حسين بلا غسل ولا كفن

عار تجول عليه الخيل ميدانا

نسألك اللهم وندعوك باسمك العظيم الأعظم

 

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد