لقاءات

علي الحاجي: الترجمة هي شباك يطلّ به الإنسان على الحضارات الأخرى


نسرين نجم ..

المتابع لحركة ترجمة الكتب العلمية يجد نقصًا واضحًا في ترجمتها إلى اللغة العربية رغم أهميتها والقدرة على الاستفادة منها في مجتمعاتنا، إضافة إلى أن الترجمة عملية ذهنية وفكرية ولغوية معقدة تتطلب إبداعًا مضاعفًا ممن يقوم بها. اختارها الشاب علي الحاجي لا من أجل الشهرة ولا من أجل المال، بل لأن هناك رسالة وقضية حملها وأراد إيصالها إلى أكبر قدر من  القراء ليستفيدوا منها، وبالفعل هكذا كان، فترجم وأبدع، إنه المترجم علي الحاجي خريج نظم معلومات إدارية من معهد بكين للتكنولوجيا Beijing Institute of Technology الذي حاورناه عن الترجمة وحركتها بشؤونها وشجونها:


* من الهواية إلى الرسالة:
الدخول إلى عالم الترجمة ليس بالأمر السهل فهو يتطلب جهدًا ووقتًا ومتابعة وهذا ما يؤكده علي الحاجي الذي بدأ رحلته في الترجمة كهواية لتصبح شغفًا وقضية: "أول تجاربي في الترجمة كانت في اليوتيوب، عندما أنشأت قناة خاصة بنشر الفديوهات التي أقوم باختيارها وترجمتها (علمية أو اجتماعية أو حتى كوميدية)، ثم أضعها على هذه القناة. كان ذلك قبل 5 سنوات، عندما كان أغلب وقتي ملكًا لي. ولكن المشروع توقف بسبب الانشغال بالجامعة والغربة. بقيت القناة ولكن تلاشى الحماس الذي دفعني إلى إنشائها. أما التجربة الحقيقية فكانت ترجمتي لكتاب (اعتراف) للكاتب الروسي ليو تولستوي، الصادرة عن دار الرحاب عام 2017. بعد نشر الكتاب انتشر اسمي كمترجم أكثر من قبل، فقررت أن أخصص لها جزءًا أساسيًّا من وقتي كمصدر دخل بسيط أو كهواية ومساهمة اجتماعية أقوم بها". وقد اختار الترجمة دون غيرها لسبب هو: "أنني أتفق مع كثير من الناس في أن المحتوى العربي ضعيف وهزيل جدًّا مقارنةً باللغات الأخرى، خاصة في الشبكة العنكبوتية، إلا أنني أختلف مع الكثير أيضًا في الاكتفاء بالتذمر والانصراف إلى الاستفادة الشخصية من المحتوى الأجنبي دون المساهمة في إثراء المحتوى العربي. تحوّلت الترجمة (خاصة ترجمة المعارف) هدفًا لي أسعى إليه وأشجّع عليه. ولذلك قمت بإنشاء مدونة شبابيك التي خصصتها لنشر المقالات والنصوص التي أقوم بترجمتها من أي مجال كانت، لإيماني بأن الترجمة هي شباك يطلّ به الإنسان على الحضارات الأخرى."
وحاليًّا يقوم بالترجمة عن اللغة الإنكليزية بشكل رئيس مركزًا على القضايا العلمية: "في الوقت الحالي لا أتقن إلا اللغة الإنجليزية والصينية، إلا أن قراءتي باللغة الصينية أقل منها في الإنجليزية، ولكني أسعى إلى تعزيز فهمي للنصوص باللغة الصينية إلى مستوى يتيح لي ترجمتها وأنا مطمئن بأني لا أخون النص. أما المجالات، فلا مجال محدد، لا أريد أن أحدّ نفسي في مجالًا واحدًا يصعب علي الخروج منه مستقبلًا. على الرغم من ذلك، فإن الترجمات العلمية تطغى على غيرها حاليًّا."


وقد أولى الترجمات العلمية اهتمامًا لأنه يرى بأنها: "أولى من غيرها، لأن الاهتمام بها ضعيف جدًّا في العالم العربي، فترجمة الروايات والأدب العالميين والكتب الفكرية تحظى بأغلب الاهتمام. أعتقد أن سبب هذا الاهتمام بترجمة الأدب والكتب الفكرية سببه ضخامة سوق هذا المجال في العالم العربي. الكتب العلمية لا تجد لها مكانًا مرموقًا أمام هذا السوق الضخم. وأرى لذلك سببين: الأول هو أن عدد المهتمين بالعلم أساسًا قليل مقارنةً بالمهتمين بالأدب والفلسفة وغيرها؛ والثاني هو أن حتى هؤلاء المهتمين بالعلوم يتجهون إلى قراءتها باللغات الأجنبية لثقتهم بها وبشموليتها وبمواكبتها لجديد العصر، بالإضافة إلى أنها تتطرق إلى مواضيع قد تكون حساسة في العالم العربي (مثل بعض النظريات العلمية). لهذا يعزف أصحاب الدور عن الترجمة العلمية غير المربحة. أحد الأمثلة التي تعكس واقع (اهتمام) الدور العربية بالكتب العلمية هو قصة حصلت لي مؤخرًا، عندما توجهت إلى أحد الدور وعرضت عليهم ترجمة كتاب علمي يتطرق إلى مستقبل العلوم وتأثيرها على البشرية، بعد يومين أو ثلاثة من تواصلي معهم كان الرد: "لم نجد في الكتاب ما يستحق الترجمة. إذا كانت لديك كتب أخرى فيسعدنا أن نطلع عليها". بطبيعة الحال، بعد هذا الرد علمت أن لن يسعدهم الاطلاع على الاقتراحات الأخرى."
هذه الحادثة التي حصلت مع المترجم الشاب علي الحاجي دفعتنا لسؤاله عن سبب ابتعاد الشباب عن عالم الترجمة ومن المسؤول عن ذلك؟: "قلة الحوافز. أي مجال لا يوجد منه مردود مادّي لن نجد فيه إلا القلة من المتحمسين الذين نرجو ألا تنضب حماستهم. وربما تكون ثقة الناشرين في الشاب ضعيفة، حيث يكون الاهتمام والتركيز منصبّين على الأسماء المشهورة، في هذه الحال يجد الشاب أمامه طريقًا طويلة مليئة بالمعوِّقات. عند وجود الحوافز والتسهيلات، حتى أولئك الذين لا يترجمون عن شغف منهم سيبذلون جهدهم كي يخرجوا بنتيجة مرضية تعود على صاحبها بنتائج إيجابية."


* الترجمة الحرفية نعمة أم نقمة:
تعكس الكتابات بشكل عام ثقافة وحضارة شعوبها وعادات وتقاليد البيئة التي نشأ فيها الكاتب وبالتالي عندما تترجم إلى لغة أخرى لا بدّ من مراعاة هذه النقاط لذا سألناه عن الترجمة الحرفية ومدى مراعاة البيئة والثقافة التي ترجمت إليها فيقول: "الترجمة الحرفية تقتل روح النص الأصلي وتقتل النص المترجم في مهده. في كل لغة هنالك من التعابير ما لا يمكن نقله حرفيًّا إلى لغة أخرى دون أن يبدو مضحكًا أو في أحسن الأحوال غريبًا. اللغات بطبيعتها تختلف في أساليبها وتعابيرها، وهذه نتيجة حتمية لاختلاف الأرض والمناخ والثقافة، ولذلك على المترجم أن يبذل جهده لأن يأتي بتعابير ومرادفات في لغته تؤدي المعنى المطلوب من دون أن تتصادم مع ذوق القارئ. إلا أن هذا لا يعني أن للمترجم كامل الحرية في أن يبتعد عن ألفاظ النص الأصلي، أو أن على المترجم أن يراعي ذوق القارئ إلى درجة تقييد نفسه بما هو موجود فقط. لا توجد حدود واضحة يمكن للمترجم أن يسير وفقًا لها، ولذلك يجب عليه أن يظل يقظًا وحذرًا طوال الوقت، حتى يستطيع الموازنة ما بين نقل المعاني وبين الحفاظ على بُنية النص الأصلي بألفاظه وتشبيهاته وأساليبه الأدبية. بذلك يكون المنتج النهائي هو نص يحافظ على بنية النص الأصلي قدر الإمكان وباستخدام أسلوب يستسيغه القارئ."
الحفاظ على بنية النص الأصلي تتطلب الموضوعية فإلى أي حدّ يمكن للمترجم أن يكون موضوعيًّا: "لا يمكن التسامح مع الموضوعية في الترجمة. إن اخترت نصًّا ما فعليك أن تلتزم بترجمته كما هو وليس كما ترى أنت، حتى وإن كان النص ينقض أقدس مقدساتك. أما من يرغب في أن يحشر آراءه في النص المترجم فعليه أن يتجه إلى مجال النقد أو التعليق أو الشرح أو غيرها من المجالات التي تتيح له عرض ما يراه هو. فلا يصحّ مثلًا أن أختار مقالة تتحدث عن أصل الكون لكاتب لا يؤمن بوجود الآلهة، و"أترجمها" بطريقة تجعل من الكاتب الأصلي متحدثًا عن الإعجاز العلمي في الأديان، بل يجب أن أنقل آراء الكاتب كما هي، حتى وإن كنت أخالفها من أساسها."

حركة الترجمة ليست ترفًا فكريًّا أو ثقافيًّا بل هي تتطلب جهودًا كبيرة وبالطبع هذا العمل المضني يواجه العديد من العوائق والصعوبات يحدثنا عنها المترجم علي الحاجي فيقول: "هنالك مشكلة المصطلحات، خاصة في المجال العلمي. غياب الجهات الرسمية والأكاديمية التي تقوم بانتخاب مصطلح ما ليكون الترجمة الرسمية تسبّب في تعدّد المصطلحات للمفهوم الواحد، وهذا ما يجعل من الترجمة العلمية صعبة جدًّا. فمن غير المعقول أن يكون أمام المترجم عدة ترجمات لنفس المفهوم العلمي، فقط لأن كل بلد من العالم العربي يستعمل ترجمة مختلفة. اللغة العربية القديمة والحديثة غنية بالكلمات والجذور اللغوية التي تستطيع استيعاب علوم الحاضر، كل ما يتطلبه الأمر هو إنشاء جهة تتولى الترجمة وفرض المصطلح العلمي على الجهات التعليمية. بهذه الطريقة نكون قد سهّلنا الترجمة والتواصل العلمي في كامل الوطن العربي، وكذلك نقوم بترشيد استهلاك الألفاظ العربية المترادفة لنستفيد منها في مصطلحات علمية أخرى.
المشكلة الأخرى التي تواجه المترجم هي ما أسميه بذوق القارئ العربي، وهو ذوق يصعب إرضاؤه، لأن القارئ قد اعتاد على كلمات وتراكيب معينة حتى صار لا يستسيغ غيرها حتى وإن كانت صحيحة. مع أن تقبّل المصطلحات لا يخضع لعقل أو منطق بقدر ما هو اعتياد على الكلمات. فمثلًا كلمة "صاروخ" قد تبدو غريبة عندما نتأمل في أصلها اللغوي وفي معناها الحاضر، إلا أنها تظل مقبولة ومستساغة عند الشخص العربي فقط لأنه معتاد عليها وورثها كما ورث بقية القاموس الذي لديه. ولكن المشكلة تظهر عندما نحاول ترجمة مفهوم علمي لا توجد له ترجمة في عقل القارئ، عندها تنشأ حالة الغرابة التي يشعر بها العربي تجاه العربية الفصحى، فيرفضها حتى وإن كانت سليمة وتؤدي المعنى.

عندما نتأمل كلمة "كاميرا" مثلًا، نجد أن معناها اللاتيني الأصلي هو "غرفة"، وأن الاسم "كاميرا" مأخوذ من Camera Obscura  (الغرفة المظلمة)، لو حاولنا ترجمة الكاميرا إلى "مصوِّرة" مثلًا، فلن يقبلها الناس رغم أنها سليمة تمامًا وتعبّر عن المخترع بشكل أدق من كلمة كاميرا. ولكن، لو بدأنا باستخدام كلمة "مصوّرة" أمام أطفال الجيل القادم للإشارة إلى تلك الآلة، فسيكبر الأطفال وسيستخدمون كلمة مصورة بشكل طبيعي كما نستخدم الآن كلمة صاروخ وثلاجة وغلّاية."
بالمقابل هل يجد علي الحاجي اهتمامًا في ترجمة الكتب العربية الى الأجنبية؟ يقول: "كان من عادتي أن أبحث عن ترجمات الكتب العربية التي أقرأها في اللغات الأخرى، لكني للأسف لم أجد في تلك اللغات إلا كتابًا أو كتابين مما قرأت. من هذه التجربة الشخصية أستطيع القول أنهم غير مهتمين بترجمة الكتب العربية، فهي لا تحوي ما قد يضيف إلى علومهم وآدابهم. هذا حكمي الشخصي المبني على تجربتي الشخصية، قد يكون الواقع مختلفًا (أتمنى ذلك!)"
فماذا أخذت منه عملية الترجمة وماذا أعطته؟ يقول: "أخذت الوقت، وأعطتني زيادة في المعرفة وشغفًا جديدًا أسير به وقيمة ذاتية أراها في نفسي، وقليلًا من المال. أما المعرفة، فقراءتي للمادة العلمية لا ترسخ في ذهني إلا بمقدار بسيط، ولكن عند ترجمتي لها فإنها ترسخ جيدًا فلا أنساها وأستطيع هضم تفاصيلها.


أما الشغف والقيمة، فشعور الإنجاز البسيط الذي ينتابني بعد ترجمة كل نص ورؤية التفاعل معه يدفعني كثيرًا نحو الأمام ويعطيني شعورًا بقيمتي في المكان الذي أعيش فيه. أما المال، فهو خيار اتخذته لأن أقوم بخدمات الترجمة بمقابل مادي بسيط يكون بمثابة الدخل الإضافي إلى جانب مصدر الدخل الرسمي. من الأعمال التي قمت بترجمتها هي كتيّبات برنامج التوستماسترز المهتمة بفنون الخطابة. "
وعن طموحه وما إذا كان يعتبر بأن للطموح سقفًا محددًا: "أطمح إلى أن أخدم المحتوى العربي بأقصى ما أستطيع فعله، وأملي هو أن أرى الاهتمام بالترجمة وضبطها يبدأ من الجهات الرسمية القادرة على ذلك.
لا أؤمن بأن للطموح سقفًا، فكل سقف نراه هو انعكاس لقدراتنا ورغباتنا في الوقت الحالي، والتي قد تتغير وتتبدل غدًا. ولكني أرى أنه من الضروري أن يختار الشخص الطموحات التي يستطيع الوصول إليها بإمكانياته، فالطموح الصغير الذي يمكن الوصول إليه خير من الطموح الكبير الذي قد يُهلك صاحبه (مجازًا أو حرفيًّا)."

وحول مشاريعه الحالية والمستقبلية: "في مجال الترجمة، أعمل الآن على مدونة شبابيك www.Shbabeek.wordpress.com لترجمة النصوص والمقالات، وأعمل على أن يساهم فيها أشخاص آخرون من المهتمين في الترجمة. أما في خارج الترجمة فعندي بعض الخطط والأهداف التعليمية والعلمية التي أسعى إلى تحقيقها."

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد