مقالات

كيف تأتّى للمهدي "عج" هذا العمر الطويل؟


السيد محمّد باقر الصدر ..
هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم ، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أكثر من ألف ومائة وأربعين سنة ، أي حوالي (١٤) مرة بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرّ بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة؟
كلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معاني : الإمكان العملي ، والإمكان العلمي ، والإمكان المنطقي أو الفلسفي.
وأقصد بالإمكان العملي : أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك ، أو لإنسان آخر فعلاً أن يحققه ، فالسفر عبر المحيط ، والوصول إلى قاع البحر ، والصعود إلى القمر ، أشياء أصبح لها إمكان عملي فعلاً فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلاً بشكل وآخر.
وأقصد بالإمكان العلمي : أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عمليأ لي أو لك ، أن تُمارسها فعلاً بوسائل المدنية المعاصرة ، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصة ، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه ، بل إن اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك ، وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسورأ لي أو لك؟ لأن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلا فارق درجة ، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلا مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد ، فالصعود إلى الزهرة ممكن علمياً وإن لم يكن ممكناً عمليا فعلاً. وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء فإثه غير ممكن علمياً ، بمعنى أن العلم لا أمل له في وقوع ذلك ، إذ لا يتصور علمياً ، وتجريبياً إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس ، التي تمثل أتوناً هائلاً مستعراً بأعلى درجة تخطر على بال إنسان.
وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي : أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قَبْلية ـ أي سابقة على التجربة ـ ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته.
فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطقي؟ لأن العقل يدرك ـ قبل أن يمارس أي تجربة أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً ، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي؟ لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً ، فتكون فرداً وزوجاً في وقت واحد ، وهذا تناقض ، والتناقض مستحيل منطقياً. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق ، وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية ، إذ لا تناقض في افتراض أن الهرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة ، وإنما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة.
وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي ، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العملي.
ولا شك في أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقياً؟ لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية ، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض؟ لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع ، ولا نقاش في ذلك.
كما لا شكّ أيضاً ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممكناً إمكاناً عملياً ، على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر ، ذلك لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً ، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة ، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين ، ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصاً على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم ، لا يحتاح لهم من العمر إلاّ بقدر ما هو مألوف.
وأما الإمكان العلمي فلا يوجد عملياً اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية . وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلفي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان ، فهل تعبر هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه ـ بعد أن تبلغ قمة نموها ـ أن تتصلب بالتدريج وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل ، إلى أن تتعطل في لحظة معينة ، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي؟ أو أن هذا التصلب وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية ، نتيجة صراع مع عوامل خارجية كالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثف؟ أو ما يقوم به من عمل مكثف أو أي عامل آخر؟
وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه ، وهو جاد في الإجابة عنه ، ولا يزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي.
فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي ، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة ، فهذا يعني أن بالإمكان نظرياً ، إذا عُزلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعيّنة ، أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً.

وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى ، التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحيّة نفسها ، بمعنى أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم ، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.
أقول :
إذا أخذنا بوجهة النظر هذه ، فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي ، بل هو ـ على افتراض وجوده ـ قانون مرن ؛ لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية؟ ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية ، أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية لا زمنية ، قد تأتي مبكرة ، وقد تتأخر ولا تظهر إلا في فترة متأخرة ، حتى إن الرجل قد يكون طاعناً في السن ولكنه يملك أعضاء لينة ، ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نصّ على ذلك الأطباء . بل إن العلماء استطاعوا عملياً أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض ، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة إلى أعمارها الطبيعية؟ وذلك بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة.
وبهذا يثبت عملياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معيّنة أمر ممكن عملياً ، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقد معين كالإنسان ، فليس ذلك إلاّ لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه اتجاهاته المتحركة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان ، سواء فسرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء.
ويتلخص من ذلك : أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن عملياً ، ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً ، إلاّ أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.
وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما أحيط به من استفهام أو استغراب ، ونلاحظ :
إنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً ، وثبت أن العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجاً ، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلاّ استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه ، فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل ، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.
وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام ـ الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر ـ حركة العلم في مجال هذا التحويل؟
فالجواب : أنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم.
أوليست الشريعة الإسلامية ككل قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة؟
أوَلم تناد بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلاّ بعد مئات السنين؟
أوَلم تأت بتشريعات في غاية الحكة ، لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكمة فيها إلا قبل برهة وجيزة من الزمن؟
أوَلم تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان ، ثم جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟
فإذا كنا نؤمن بهذا كله ، فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة ـ سبحانه وتعالى ـ أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي؟  وأنا هنا لم أتكلم إلا عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورة مباشرة ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحدثنا بها رسالة السماء نفسها.
ومثال ذلك أنها تخبرنا بأن النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم قد أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهذا الإسراء  إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية ، فهو يعبر عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يُحقّقه إلا بعد مئات السنين ، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك ، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد ، قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك.

نعم ، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريباً في حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس ، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلماء ، ولكن! أو ليس الدور التغييري الحاسم الذي أعد له هذا المنقذ غريباً في حدود المألوف في حياة الناس. وما مرت بهم من تطورات التاريخ ؟ أوليس قد أنيط به تغيير العالم، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل ؟ فلماذا نستغرب إذا اتسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر ؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه. فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد تاريخياً على الرغم من أنه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة ؟
ولا أدري هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط، بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة ؟ أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو نوح الذي نص القرآن الكريم على أنه مكث في قومه ألف عام إلا خمسين سنة، وقدر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد. والآخر يمارس دورة في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام وسيقدر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد.
فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي ؟

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد