مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ جعفر السبحاني
عن الكاتب :
من مراجع الشيعة في ايران، مؤسس مؤسسة الإمام الصادق والمشرف عليها

الحكمة من تشريع التوبة


الشيخ جعفر السبحاني ..
من المسائل المهمة في بحث التوبة هو تحليلها وبيان الحكمة من تشريعها، وذلك لأنّ القرآن قد أولى التوبة عناية فائقة حيث دعا جميع المذنبين والعاصين والمتمردين على اللّه إلى الإنابة والرجوع إليه سبحانه والندم على ما صدر منهم، فخاطب الجميع بقوله سبحانه:
(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّاللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ).([1])
صحيح أنّ الآية تحدّثت عن غفران الذنوب جميعها ولم تتحدث عن التوبة بصورة صريحة هنا، إلاّ أنّه يمكن ومن خلال الالتفات إلى المفاهيم القرآنية القول أنّ غفران الذنوب في الحقيقة يتم في ظل مجموعة من العوامل التي من أهمّها التوبة والندم، وأنّ تأثير باقي العوامل أقلّ من تأثير التوبة والندم.
يقول سبحانه في آية أُخرى:
(...وَتُـوبُوا إِلَى اللّهِ جَميعـاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .([2])
إنّ هدف التوبة ـ بمعنى التوجّه إلى اللّه سبحانه ـ لا ينحصر في الندم على الذنب والمعصية، بل ـ وكما سنوضح ذلك لاحقاً ـ إنّ عودة الأنبياء والأولياء إلى اللّه سبحانه تشملها الآية الداعية إلى العودة إلى اللّه والتوبة بصورة مطلقة والتي طرحت التوبة باعتبارها أصلاً كليًّا وعامًّا.
وبالالتفات إلى هذا الوعد والعناية الشاملة، وقع البعض في حيرة وإشكال في فهم حكمة هذا التشريع، ولذلك أطالوا التفكير في المسألة وخلصوا إلى أنّ: الإعلان عن قبول التوبة يمثّل في واقعه دعوة إلى ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي، إذ بإمكان العباد الاتّكاء على هذا الأصل واقتراف المعاصي على أمل التوبة من الذنوب في المستقبل، لأنّ الباب مفتوح أمامهم ولا داعي إلى إلزام أنفسهم من الأوّل بالطاعات والعبادات، بل لهم أن يلتذّوا بما حرّم اللّه فترة من عمرهم ثمّ بعد ذلك يتوجّهون إلى اللّه بالتوبة والإنابة واللّه غفور رحيم.
وبالطبع إنّ هذا الإشكال لا يختص بتشريع التوبة فقط، بل أنّ هذا التفكير الساذج يصدق في كلّ عمل اعتبره الإسلام سبباً وعاملاً في غفران الذنوب، فعلى سبيل المثال: إنّ المخالفين لفكرة الشفاعة تعلّقوا بنفس الإشكال المطروح، وبما أنّ بحث سر وحكمة الشفاعة يبحث في محله، نكتفي هنا في البحث عن حكمة وفلسفة تشريع «التوبة» وبالطريقة التالية: من الصفات البارزة التي وصف القرآن الكريم بها الأنبياء هي صفتي الرجاء والأمل بالوعد والرحمة الإلهية والخوف والخشية من عذابه سبحانه فهم(عليهم السلام) يعيشون بين الخوف والرجاء، ففي الوقت الذي يستشعرون حالة الخوف من عذاب البرزخ ترنو أبصارهم إلى جنة الخلد التي وعد بها المتّقون، وقد عبّر سبحانه عن هذه الخصلة الحميدة للأنبياء والأولياء بقوله:
(...وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعينَ) .([3])
وأنت إذا لاحظت آيات الذكر الحكيم تجد أنّها دائماً تتحدّث عن البرزخ والعذاب وتقرنه بالحديث عن الجنة والنعيم الإلهي، إنّ هذا التقارن يحكي أنّ مجال التربية والإصلاح وتهذيب أخلاق الإنسان وسوقه إلى اللّه وإلى الخصال الحميدة لا يتم من خلال التخويف والإنذار والتهديد فقط، بل لابدّ أن تنمّى إلى جانب ذلك حالة أُخرى وهي حالة بعث الأمل والرجاء في النفوس، ويقال للعباد: إن كان للّه سبحانه عذاب ونار فإنّ لديه أيضاً جنة ونعيماً لكي لا يحوم الإنسان حول الرذائل والقبائح وينفض عن كاهله غبارها ودنسها فيما إذا كان قد ارتكب في يوم ما شيئاً منها، ولا ييأس ولا يقنط من رحمة اللّه الواسعة، ويعيش حياته بين الرجاء والخوف.
ولقد وصف القرآن الكريم الأنبياء والرسل بأنّهم المنادون بالخوف والرجاء وبالعذاب والرحمة حيث قال سبحانه:
(كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ...) .([4]) إلى هنا اتّضح وبصورة إجمالية دور الأمل والرجاء في حياة الإنسان، وهذه المسألة بدرجة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى أكثر من ذلك، ولكن المهم هو التذكير بأنّ الوعد بقبول التوبة وتحت شروط خاصة، يُعدّ فرعاً من فروع بعث الأمل في نفس الإنسان المذنب والعاصي، والمتمرّد على القوانين الإلهية، بأن يعيد النظر في مواقفه وما ارتكبه من الذنوب والمعاصي وأن يصحّح مسيرته ويطهر سريرته وذاته ويتحوّل إلى إنسان مستقيم الطريقة مرضي الخصال وليس التوبة ـ كما تصوّرها المستشكل ـ محفزاً وباعثاً على الذنوب والتمرّد على القوانين والأحكام الإلهية، وتوضيح ذلك:
لا ريب أنّ الإنسان غير المعصوم، وخلال مسيرة حياته الطويلة وتحت ضغط طغيان وجموح الغرائز والميول النفسانية، يرتكب سلسلة من المعاصي ويقع في الكثير من المخالفات، ممّا يؤدّي إلى أن تسوّد صحيفة أعماله بالكثير من الذنوب والموبقات.

فلو فرضنا أنّ هذا الإنسان الذي وصل إلى هذا الطريق المنحرف، قد وجد نفسه أمام طريق مسدود وأنّ الجسور بينه وبين ربّه قد قطعت جميعاً، وأنّ باب التوبة والإنابة قد أُوصد في وجهه، ولم تترك له فرصة العودة إلى الطريق القويم، ماذا تراه سيفكّر حينئذ؟ ممّا لا ريب فيه أنّه وتحت حالة اليأس هذه يفكر بأنّه لم يبق أمامه إلاّ طريق واحد، وهو استغلال ما بقي من عمره في الملذّات والاستجابة للغرائز والميول مادام يشعر بأنّه معذّب على كلّ حال، فلماذا لم يتنعّم في الدنيا على أقلّ تقدير؟ ولا ريب أيضاً أنّه لا يفكّر ولو لحظة واحدة في إصلاح نفسه، لأنّه يعلم أنّ طريق الإصلاح قد سدّ في وجهه، فعليه مواصلة طريق الموبقات. ولكن الأُسلوب الصحيح أن يفتح باب التوبة أمام هذا الإنسان ليعتقد أنّ اللّه القهّار والمعذّب و المعاقب هو نفسه اللّه الغفور الرحيم (وَهُوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السييِّئاتِ) .
ويعتقد أنّه فيما إذا قرر إصلاح نفسه والعودة إلى طريق الصالحين ومنهج المؤمنين ونفض غبار الذنوب ودنسها وتركها إلى غير رجعة، وأن لا يعصي اللّه أبداً ولا يخالف له أمراً، فإنّ اللّه سيعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن سيّئاته، وحينئذ سيكون مصيره مصير الصالحين والطاهرين، فلا ريب أنّه سيقدم على اتّخاذ قرار العودة والإنابة إلى اللّه والتوبة إلى خالقه، ويسعى إلى إصلاح نفسه ويكون من المتّقين.
إنّ شعاع الأمل هذا سيحدث في داخل الإنسان تحوّلاً عظيماً يتغيّر على أساسه نمط سلوكه ومنهجه في الحياة إذ كلّما اقترب من اللّه ابتعد عن الذنوب والمعاصي والموبقات.
ومن هنا يتّضح انّ التوبة ليست هي عامل حثّ وترغيب على المعصية كما يقال، بل هي في الحقيقة من أهمّ العوامل في تقليل نسبة الذنوب والمعاصي، وكثيراً ما يهتدي الكثير من الناس المنحرفين والمذنبين في الشطر الثاني من عمرهم ويتوجّهون نحو الطهر والنزاهة وحينها تقل نسبة الجريمة والذنوب في المجتمع.
وأنت إذا ألقيت نظرة على السجون في العالم، وشاهدت الذين حكموا بأحكام طويلة الأمد أو مدى الحياة، أو بالأعمال الشاقة، فلو افترضنا أنّ من ضمن مقررات تلك السجون: أنّ السجين الذي يثبت لدى المسؤولين على السجن ندامته على ما اقترف ويصلح ذاته ويغيّر أُسلوبه في الحياة ويتحوّل إلى إنسان مستقيم الطريقة، فإنّه ستشمله قوانين تخفيف العقوبة أو يطلق سراحه، فلو علم السجناء بهذه الفقرة القانونية التي تحيي في نفوسهم الأمل في العودة إلى الحياة الحرة والتخلّص من قيود السجن وقضبانه، فلا ريب أنّهم يحاولون الاستفادة من هذه الفرصة الذهبية; وأمّا إذا لم توجد مثل هذه القوانين ولم يكن لتوبة السجين وندمه أيّ أثر في تغيير مصيره، فمن الواضح أنّه لا يسعى إلى تغيير حياته في السجن، بل كثيراً ما يكون عامل إزعاج للمشرفين على السجن ويتحوّل إلى إنسان مشاكس أكثر ممّا هو عليه في السابق.
ويظهر من بعض الآيات المباركة أنّه كما أنّ التهديد بالعذاب والعقاب يمثّل أحد مرتكزات وأُسس إقامة الحجّة على العباد، كذلك الأمل والرجاء أيضاً يكون أساساً ومرتكزاً  آخر لإقامة الحجة عليهم، ومن تلك الآيات قوله سبحانه:
(رُسُلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَالرُّسُلِ...) .([5])
ثمّ إنّ التوهّم السابق ـ الذي يرى أنّ التوبة تعدّ بمنزلة الضوء الأخضر أمام الإنسان لارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي إنّما يصحّ ويصبغ نفسه بلون الدليل فيما إذا اعتقدنا أنّ التوبة تقبل على كلّ حال وفي جميع الشروط. ولكنّ الإمعان في المسألة يظهر لنا أنّ للتوبة شروطاً خاصة كثيراً ما تكون غير متوفّرة لدى الإنسان المذنب والعاصي، فإذا لم يطّلع الإنسان على تلك الشروط ويدرك جيداً أثرها فلا يمكنه أبداً التوبة والخضوع للقانون، بل قد يكون بعضها غير قابل للتوفّر في المستقبل.
ومن الشروط التكوينية للتوبة شرط بقاء الإنسان على قيد الحياة، ولا ريب أنّه لا يوجد مذنب على وجه الأرض يقطع باستمرار حياته إلى الوقت الذي يقرر فيه التوبة، وحينئذ كيف يأمل في التوبة مع هذا الشك والترديد في بقاء حياته لتتسنّى له التوبة، وكيف يرتكب الذنب على أمل أن يتوب في المستقبل؟
نعم هناك بعض المجرمين يرتكبون الذنوب على أمل التوبة ولكن في الواقع إنّ هؤلاء يخدعون أنفسهم بعملهم هذا، وإذا لم يكن باب التوبة مفتوحاً أمامهم فإنّهم لن يمسكوا أيديهم عن الاستمرار في الجريمة والمعصية، بل يتظاهرون بالتوبة أمام الناس.
نعم يمكن استغلال الأصل الصحيح والاستفادة منه بطريقة سلبية، ولكن ذلك لا يكون سبباً للإمساك عن تشريع هذا الأصل التربوي المهم وحرمان الناس منه تحت ذريعة استغلاله من قبل البعض.

ثمّ إنّنا لابدّ أن ننظر إلى الأُمور نظرة واقعية، وأنّ نعترف بالحقيقة وإن كانت مرّة، وهي أنّ غالبية الناس يقترفون المعاصي في حياتهم ويقترفون الذنوب والآثام وأنّ المعصومين والمنزّهين من الذنب والخطأ قليلون جداً بعدد الأصابع، وبالنتيجة نعترف بأنّ الذنوب والمعاصي لا تنفك عن الفرد والمجتمع، سواء أكان باب التوبة مفتوحاً أم أُغلق باب التوبة في وجوه المجرمين، ولا شكّ أنّه في مثل هذه الحالة يكون لفتح باب التوبة وتشريعه أثرٌ فاعل في سعادة الإنسان واستقراره لا في شقائه وتعاسته أو....
نعم إذا كان إيصاد باب التوبة عاملاً في مصونية الفرد والمجتمع عن الذنوب، أو كان فتح باب التوبة سبباً وباعثاً «للتجرّي»، ففي مثل هذه الحالة يفقد التشريع حكمته وتفقد التوبة فلسفتها.
ولكن الواقع ليس كذلك، بل الحقيقة على خلافه، وذلك لأنّ الإنسان خلق وهو يحمل مجموعة من الغرائز والميول القاهرة التي قد تتغلّب على قدرة العقل وسلطانه وتجرّه إلى الهاوية، وهذه ظاهرة لا يمكن اجتنابها أو إنكارها في حياة الإنسان، وحينئذ لا يكون تشريع التوبة عاملاً مساعداً في وقوع الذنب أو كثرته وانتشاره في المجتمع، بل تعدّ التوبة نافذة أمل وبريق ضوء لتخليص الإنسان من أسر الشهوات وتخليصه من الشقاء والتعاسة.
إلى هنا اتّضح لنا ـ و من خلال ما ذكرنا ـ أحد الأسرار المهمة لتشريع التوبة، ومن المناسب جداً الإشارة إلى بعض الروايات التي أشارت بنحو ما إلى هذه الحكمة لتشريع التوبة:
1.عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:«يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له» ... قلت: فإن فعل ذلك مراراً، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر؟ فقال(عليه السلام) :
«كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيّئات، فَإيّاكَ أَنْ تُقَنِّط المْؤْمِنينَ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ».( [6])
2. وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعض كلماته القصار:
«الْفَقيهُ كُلُّ الْفَقيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ، وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللّهِ».([7])
ففي هذا الحديث أشار إلى عاملين من عوامل التربية، أعني: «الخشية والرجاء»، فإنّ الاكتفاء بصفة الأمل والرجاء فقط هي من صفات اليهود أو من يسير على منهجهم، فإنّهم لا يخشون ذنوبهم وجرائمهم مهما كانت عظيمة; وأمّا الذين يعيشون حالة الخوف والخشية فقط فهؤلاء الناس يائسون والقانطون من رحمة اللّه سبحانه ولا يرون للتوبة أيّ أثر في نجاتهم وخلاصهم من العذاب الأُخروي.
3. كان الزهري عاملاً لبني أُمية فعاقب رجلاً ـ كما يروى ـ فمات الرجل في العقوبة، فخرج هائماً وتوحّش ودخل إلى غار، فطال مقامه تسع سنين، قال: وحج علي بن الحسين(عليه السلام) فأتاه الزهري فقال له علي بن الحسين(عليه السلام) :
«إنّي أخافُ عَلَيْكَ مِنْ قُنُوطِكَ ما لا أَخافُ مِنْ ذَنْبِكَ فابعث بدية مسلّمة إلى أهله، وأخرج إلى أهلك ومعالم دينك»، فقال له: فرّجت عنّي يا سيدي! اللّه أعلم حيث يجعل رسالته([8]).([9])


[1] . الزمر: 53.
[2] . النور: 31.
[3] . الأنبياء: 9.
[4] . البقرة: 213.
[5] . النساء: 165.
[6] . بحار الأنوار: 6/20، باب20، الحديث 71.
[7] . نهج البلاغة، الكلمات القصار، برقم 90.
[8] . بحار الأنوار: 46/132، وقد نقل العلاّمة المجلسي هذه الرواية عن مناقب ابن شهر آشوب، وقد وردت هذه القصة باختلاف يسير في كتاب مجموعة ورّام.
[9] . منشور جاويد: 8/214ـ 220.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد