قرآنيات

آداب تلاوة القرآن الكريم


الشهيد الثاني ..

وإن عقّبتَ بشيءٍ من القرآن، فينبغي أن تتدبّر بعضَ وظائفه لتقومَ بشروطه، وتمتثل مرسوم حدوده، كما ينبغي ذلك لكلّ قارئ. وما ورد في ثواب قراءة القرآن والحثّ عليه يخرج ذكرُه عن موضوع الرّسالة. فلنذكر مهمّ وظائفه ملخّصاً، وهي أمور:


الأوّل: تركُ حديث النّفْس
أوّلُ وظائف تلاوة كتاب الله تعالى هو حضورُ القلب وتركُ حديث النّفْس. قِيل في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ..﴾، أي بجدّ واجتهاد. وأخذُه بالجدّ أن يتجرّد عند قراءته بحذف جميع المُشغِلات والهموم عنه. (مريم:12)


الثاني: التدبّر
وهو طَورٌ (حالة) وراء حضور القلب، فإنّ الإنسان قد لا يتفكّر في غير القرآن، ولكنّه يقتصر على سُماع القرآن وهو لا يتدبّره. والمقصود من التّلاوة التدبّر.
قال سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (النساء:82).
وقال تعالى: ﴿.. وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا﴾، لأنّ الترتيل يُمكّن الإنسان من تدبُّر الباطن. (المزّمل:4)
وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «لا خيرَ في عبادةٍ لا فقهَ فيها، ولا خيرَ في قراءةٍ لا تدبُّر فيها». وإذا لم يُمكن التدبّر إلا بالترديد، فليُردّد.


الثالث: التّفهُّم
وهو أن يستوضح من كلّ آيةٍ ما يَليق بها، إذ القرآن يشتملُ على ذكر صفات الله تعالى وأفعاله، وأحوال أنبيائه والمكذّبين لهم، وأحوال ملائكته، وذِكر أوامره وزواجره، وذكر الجنّة والنار، والوعد والوعيد. فليتأمّل معاني هذه الأسماء والصّفات، لتنكشف له أسرارها...
 قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ الكهف:109.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «لو شئتُ لَأَوْقَرْتُ سَبعين بَعيراً من تَفسير فاتحةِ الكتاب».


الرابع: التخلّي عن موانع الفهم
التخلّي عن موانع الفهم؛ فإنّ أكثر الناس مُنعوا من فهم القرآن لأسباب وحُجب أسدلها الشيطان على قلوبهم، فحُجِبت عن عجائب أسراره.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لولا أنّ الشياطين يَحومون على قلوب بني آدم لنَظروا إلى الملكوت».... ومعاني القرآن الكريم وأسراره من جملة الملكوت.
والحُجب الموانع، منها:
1) الاشتغال بتحقيق الحروف، وإخراجها من مخارجها والتشدّق بها من غير ملاحظة المعنى.
2) أن يكون مبتلىً من الدنيا بهوىً مُطاع، فإنّ ذلك سبب لظُلمة القلب، كالصّدَأ على المرآة، فيمنع جلية الحقّ أن يتجلّى فيه، وهو أعظمُ حجاب للقلب، وبه حُجِب الأكثرون، وكلّما كانت الشهوات أكثر تراكماً على القلب، كان البُعد عن أسرار الله تعالى أعظم.


الخامس: تخصيصُ النفس بالخطاب
أن يخصّص نفسه بكلّ خطاب في القرآن؛ من أمر ونهي، أو وعد ووعيد، ويقدِّر أنه هو المقصود.
وكذلك إنْ سمع قصص الأولين والأنبياء عليهم السلام، وعلم أن مجرّد القصّة غير مقصود، وإنما المقصود الاعتبار، ولا يعتقد أن كلّ خطابٍ خاصٍّ في القرآن أراد به الخصوص، فإن القرآن وسائر الخطابات الشرعية واردة على طريقة «إيّاك أعني واسمعي يا جاره»، وهي كلُّها نور وهدى ورحمة للعالمين، ولذلك أمر الله تعالى بشكر نعمة الكتاب، فقال: ﴿.. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ..﴾ (البقرة:231).
وإذا قدّر أنه المقصود لم يتّخذ دراسة القرآن عملاً، بل قراءةً كقراءة العبد كتابَ مولاه الذي كَتبَه إليه، ليتدبّره ويعمل بمقتضاه.


السادس: التأثّر
وهو أن يتأثّر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كلّ فهمٍ حالٌ ووَجْدٌ يتّصفُ به عندما يوجّه نفسه في كلّ حال إلى الجهة التي فهمَها؛ من خوف، أو حزن، أو رجاء، أو غيره، فيستعدّ بذلك وينفعل، ويحصل له التأثّر والخشية.
ومهما قَوِيت معرفتُه كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه، فإنّ التضيّق غالبٌ على العارفين، فلا يرى ذكرَ المغفرة والرّحمة إلّا مقروناً بشروطٍ يقصر العارفُ عن نيلِها، كقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ (طه:82)، فإنّه عزّ وجلّ قَرَنَ المغفرة بهذه الشروط الأربعة.
وكذلك قولُه تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، إلى آخر السورة، وذكر فيها أربعة شروط. وحيث أوجزَ واختصرَ ذكر شرطاً واحداً جامعاً للشرايط فقال تعالى: ﴿..إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾، إذ كان الإحسان جامعاً لكلّ الشرايط. (الأعراف:56)
وتأثُّر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المَتلوّة:
- فعند الوعيد يتضاءل من خشية الله.
- وعند الوعد يستبشر فرحاً برحمة الله.
- وعند ذكر الله وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله.
- وعند ذكرِ الكفّار في حقّ الله ما يمتنعُ عليه كالصاحبة والولد، يَغُضُّ صوته، ويَنكسر في باطنه حياءً من قُبح أفعالهم، ويكبّر الله ويقدّسه عمّا يقول الظالمون.
- وعند ذِكر الجنّة ينبعث بباطنه شوقاً إليها.
- وعند ذكر النار ترتعد فرائصُه خوفاً منها.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إقرأوا القرآنَ ما ائتلفتْ عليه قلوبُكم، ولانت عليه جلودُكم، فإذا اختلفتُم فلستم تَقْرَؤونَه».
ورُوي أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله ليعلّمه القرآن، فانتهى إلى قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾، فقال: يكفيني هذا وانصرف.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «انصرفَ الرّجلُ وهو فقيه».
وأمّا التّالي باللّسان، المعرِضُ عن العمل، فجديرٌ أن يكون المراد بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (طه:124).
وإنّما حظُّ اللسان تصحيح الحروف بالتّرتيل، وحظّ العقل تفسير المعاني، وحظّ القلب الاتّعاظ والتأثّر بالانزجار والائتمار.


السابع: الترقّي
وهو أن يوجّه قلبَه وعقله إلى القبلة الحقيقية، فيستمع الكلام من الله تعالى لا من نفسه. ودرجاتُ القراءة ثلاثة:
* أدناها: أن يقدّر العبد كأنّه يقرأ على الله عزّ وجلّ، واقفاً بين يديه، وهو ناظرٌ إليه ومستمعٌ منه، فيكون حاله عند هذا التقدير؛ السؤالُ والتضرّعُ والابتهال.
* والثانية: أن يشهد بقلبه كأنّه سبحانه وتعالى يُخاطبه بألطافه، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه، وهو في مقام الحياء والتعظيم لمِنن الله والإصغاء إليه، والفهم منه.
* الثالثة: أن يرى في كلام المتكلّم وفي الكلمات الصّفات، ولا ينظر إلى قلبِه، ولا إلى قراءته، ولا إلى التعلّق بالإنعام من حيث هو مُنعَمٌ عليه، بل يقتصر الهمُّ على المتكلِّم، ويُوقف فكرَه عليه، ويستغرق في مشاهدته، وهذه درجة المقرّبين، وعنها أخبر جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام بقوله: «لقد تجلّى اللهُ لخَلْقِه في كلامه ولكنّهم لا يُبصِرون».


الثامن: التبرّي
والمُراد به أن يتبرّأ مِن حوله وقوّته، فلا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية:
- فإذا تلا آيات الوعد ومَدْحِ الصالحين حذف نفسه عن درجة الاعتبار، وشهد فيها الموقنين والصدّيقين، ويتشوّق إلى أن يُلحقه الله بهم.
- وإذا تلا آيات المَقت والذمّ للمقصّرين شهدَ نفسه هناك، وقدّر أنّه المخاطَب خوفاً وإشفاقاً.
وإلى هذه المرتبة أشار أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليه السلام في الخطبة التي يصف فيها المتّقين بقوله: «وإذا مرّوا بآيةٍ فيها تخويفٌ أصغَوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفيرَ جهنّم وشهيقَها في أصول آذانهم..».
ومَن رأى نفسه بصورةِ التقصير في القراءة كان ذلك سببَ قربِه، ومَن شاهد نفسه بعين الرضا فهو محجوبٌ بنفسه.
فهذه نبذةٌ من وظائف القراءة وأسرارها، وفّقنا الله لتلقّي الأسرار، وألحقنا بعباده الأبرار».
ــــــــــــ
مجلة شعائر

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد