قرآنيات

منازل السير إلى الله تعالى


الشيخ حسن المصطفوي

قال الله تعالى في الآية 112 من سورة التوبة: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
رتّب الله عزّ وجلّ مراحل السالكين إليه تعالى في سبعة منازل:
1) منزل التوبة: وهو الرجوع إلى الله تعالى من العصيان والخلاف، ومن التعلَّق بالحياة الدنيا، ومن الغفلة والضلال. وهذا أوّل منزلٍ للسالك إلى الله تعالى، ولا بدّ له من العزم والتصميم حتّى تتحقّق له التوبة القاطعة من دون ترديد وتزلزل ورَيب.
2) منزل العبوديّة المطلقة: وهو التذلُّل والتعبّد والإطاعة والاتّباع في جميع ما يريد الله ويأمر وينهى، حتّى تكون جميع أعماله وأقواله وأحواله وبرنامج أموره وظاهره وسرّه على طِبق حكم الله تعالى، وعلى ما تقتضي وظائف العبوديّة، بحيث لا يُرى منه غير الطاعة، ولا يشاهَد منه غير الخضوع والتذلَّل.
ويلزم للسالك أن يجاهد في تثبيت آثار هذا المنزل، والتثبّت فيه حتّى لا يبقى له أدنى خلاف في سرّه وعلنه، وتكون جميع جوارحه وأعضاء بدنه وقلبه في طاعة الله تعالى واتّباعه، قال عزّ وجلّ: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات:56، فإنّ عبادة الله تعالى والسير في طاعته واتّباعه هي سعادة العبد، وفيها صلاحه وكماله، ويقابلها الضلال والانحراف عن الحقّ، واتّباع خطوات الشيطان.
3) منزل الحمد: ومرجعُه إلى رضى العبد وطمأنينة نفسه في قبال قضائه وحكمه عزّ وجلّ، تكوينيّاً وتشريعيّاً، وكون الربّ تعالى ممدوحاً عنده من كلّ جهة وصفة؛ من جهة صفاته الذاتيّة وصفاته الفعليّة، ومن جهة أوامره ونواهيه وتكاليفه المتوجّهة إلى العبيد عامّة أو خاصّة.
فإنّ العبد إذا التفت إلى أنّ صلاحه وسعادته وخيره في اتّباع الأحكام الإلهيّة وفي عبوديّة الربّ وإطاعته وسلوك مرضاته، يعرف أنّ ما يريده سبحانه ويقضي ويحكم ويقدّر إنّما هو خيرٌ وصلاحٌ للعبد، وما يريد إلَّا إصلاح حاله وتكميل نفسه وإيصال الخير والرحمة اليه. فتحقُّق هذه الصفة وتثبّتها في سرّ السالك إنّما يكون بعد تثبّت العبوديّة.
4) منزل السياحة: وهو سير معنويّ وحركة روحيّة في الأسماء والصفات والتجلِّيات الإلهيّة، وتحصيل المعرفة بالحقائق والمعارف اللاهوتية، بتهذيب النفس وتزكيتها وتسليمها، ورفع الحُجب بتأييد الله المتعال وحوله وقوّته ولطفه وعنايته وتوفيقه... وهذا المنزل يعبّر عنه - بالسفر في الحقّ بالحقّ.
5) منزل الركوع: وفيه يتحقّق الخضوع والخشوع التامّ للسالك في قبال عظَمة اللاهوت وجلال الله وجماله الأبهى، وترتفع الأنانيّة، ويركع لله بظاهره وباطنه وفي جميع أعماله وأحواله.
6) منزل السجود: وفيه يتحقّق مقام المحو والفناء الصّرف، ولا يبقى من وجوده أثر، ولا يرى إلَّا الله، وفيه تتجلَّى حقيقة الإخلاص.
7) منزل السفر إلى الخلق: وهو المعبّر عنه بقوله تعالى: ﴿..الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ..﴾ التوبة:112، وهذه الفقرات بمنزلة جملة واحدة، وإشارة إلى منزلٍ واحد، بقرينة العطف بالواو. وفي هذا المنزل بعد الفناء الصرف وتجلِّي الإخلاص: يستعدّ السالك لأن يكون واسطةً بين الخلق والخالق بولاية عامّة أو خاصّة.
فهذه سبعة منازل للسالك إلى الله العزيز: منزلان منها في عالم المُلك ويتعلَّقان بالبدن، وهما التوبة والعبادة. وثلاثة منازل منها تتعلَّق بالقلب وعالَم الملكوت، وهي الحمد والسياحة والركوع. وواحد منها يتعلَّق بعالم الجَبروت... وهو السجود، ويعبّر عنه أيضاً بمقام الوصول. والمنزل الأخير مقامٌ جامع، وفيه يتجلَّى حقيقة الإنسان وكماله.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد