مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

كيف نعرف الله حقًّا؟

جميع الّذين يؤمنون بإله العالم وخالقه يعتقدون بأنّه يتجلّى لعباده بنحوٍّ ما وأنّه يعرّفهم إلى نفسه. التجلّي هو التعرّف. وسواء وصل النّاس إلى هذه العقيدة عن طريق العقل والفكر أو عن طريق النقل (أو الّشرع باصطلاح العرفاء)، فإنّه ما من شكّ بأنّ هذا الإله قادر على التّعرُّف إلى خلقه، وأنّه لن يكون من هو أفضل منه في هذا التّعريف.

بعض الناس، وخصوصًا أتباع الفلسفة الرسميّة قد يغفلون عن هذه الحقيقة الّتي كانوا قد أثبتوها سابقًا في أبحاثهم. ففي غمرة هذه الغفلة تجدهم لا يبحثون عن طرق الله وأساليبه في تعريف نفسه إلى خلقه. هذا نقصٌ فادح وعيبٌ كبير في أيّ مدرسة أو مذهب يتحدّث عن معرفة الله تعالى.

لو كان الباحثون قد بذلوا جزءًا من وقتهم العلميّ في دراسة هذه القضيّة لتغيّر وجه المعارف الإلهيّة إلى الأبد. لكنّ الإصرار على الاعتماد التّامّ على عقولنا للوصول إلى هذه المعرفة أدّى إلى ما يُشبه انسداد أبوابها. كان يُفترض أن ننطلق من هذه الحقيقة الثّابتة لكي يُعاد النّظر في هذه المعرفة بصورةٍ أعمق. لو حصل ذلك في كلّ مكان لشهدنا ما يُشبه الانفجار الكونيّ في هذا المجال.

كان يُفترض أن يقوم صرح معرفة الله على الإيمان بأنّ الله تعالى قد كتب على نفسه أن يتجلّى لخلقه ويعرّفهم إلى نفسه بما يتناسب مع سرّ خلقهم.. تحديد مستوى هذه المعرفة لا يقلّ أهميّة عن فتح آفاقها أيضًا. إنّهما خطّان يسيران جنبًا إلى جنب؛ حيث يجب منع العقول عن التّمادي في الوقت الّذي تتمّ الدّعوة إلى تجاوز إمكاناتها!

ما يحصل في واقع الأمر أنّ كلّ ما نعرفه عن الله تعالى هو منه، لكن بعضه يكون من باب الحجب. أجل، يحتجب الله عن خلقه، وبعض الاحتجاب عقاب. قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ‏}.[2] إن أراد الله تعالى بعبدٍ خيرًا فإنّه يفتح قلبه على معرفته، فلا يكون بينه وبين عبده حجاب الإبعاد.

إنّ إصرارنا على أن نتعرّف على الله بعقولنا يستبطن رعونة فاضحة؛ وهي تتعارض تمامًا مع اعتقادنا بأنّ هذه المعرفة هي شأن الله تعالى. المقصود من العقول هنا ليس ما يستقبل من تجليّات الرّب، بل ما يعتمد على الفكر والمقدمات والحركة الفكريّة. والرّعونة هنا ناشئة من الاعتماد على ذواتنا والثّقة بأنفسنا. هذا هو أبعد شيء عمّا يمكن أن يوصلنا إلى الله.

كيف يمكن لنا أن نصل إلى الله بما هو مانع من الارتباط به. مع الله يُفترض أن نتخلّى عن كلّ شيء؛ أو بعبارةٍ أدقّ أن نلتفت إلى حقيقة عجزنا. العجز ليس فقط في حمل الأثقال، العجز عن المعرفة هو أوّل العجز. لعلّ هذا ما يذكّرنا بكلام الإمام زين العابدين عليه السلام في مناجاته: "ولَم تجعلْ للخَلْقِ طريقًا إلى معرِفَتِكَ إلّا بالعَجْزِ عن معرِفَتِكَ".

هنا يأتي السّؤال حول كيفيّة ممارسة هذا العجز أو معايشته. قد نتصور للوهلة الأولى أنّه علينا أن نتوقّف عن الاهتمام بهذه القضية ونكل الأمر إلى الله. حسنًا، قد يحمل هذا الكلام بعض الصّحّة. لكن لا ينبغي أن ننسى بأنّ الله تعالى لا يدعنا وشأننا، بل هو مهتمّ لأمرنا وسيتفرّغ لنا جميعًا.

انظروا إلى الآيات التي تستحضر قضيّة وجود الله ومجيئه. إنّها أكبر قضية على الإطلاق. لا يمكن أن يكون الله مهملًا لأمرٍ سيكون له هذا الشّأن يوم الدين. هذا يعني أنّ حياتنا كلّها تدور حول هذه القضيّة، كلّ ما في الأمر أنّنا ننظر إليها من زاوية خاطئة.

 أجل إنّ الله تعالى يتجلّى لنا في كلّ لحظة وفي كلّ آن. لنقل إنّه ما من قضيّة في حياتنا إلا ولله تعالى فيها حضور. نُعبّر عن ذلك بالرّسائل الإلهيّة المحمولة على أجنحة الأحداث والوقائع. ما علينا سوى أن ننظر مرّة أخرى، وسنجد أنّ كلّ شيء يحكي عن الله.

فالسّؤال في الواقع هو: كيف نجعل حياتنا حالة دائمة من تلقّي التّجلّيات واستقبال الواردات لنزداد بذلك معرفة به؟

إنّ تصوّرنا بأنّ الله تعالى لا يُعرف إلا في دروس العقيدة والفلسفة وعلى ألسن العلماء هو الذي حجبنا عن ملاحظة شدّة حضوره الذي هو أساس المعرفة.

لا شكّ بأنّنا نحتاج إلى المفاهيم الكليّة إن أردنا أن نتواصل فيما بيننا. لكن هذه الكليات هي أبعد ما يكون عن الموجود الشّخصيّ الحاضر العينيّ. إنّ إصرارنا على التّعامل مع الله والتّواصل معه عبر الأفكار يشبه أن يصرّ المرء على مناداة ابن خالته عند لقائه بقوله: يا ابن المرأة التي هي أخت أمّي! العلاقة شخصيّة بامتياز ولا أحد يستعمل المفاهيم الكليّة في العلاقات الشّخصيّة. يحصل هذا كثيرًا بيننا وبين الله دون أن نشعر، لكنّنا لا نشعر أيضًا أنّنا بذلك نحتجب عن الله تعالى. إصرارنا على تحويل كلّ ما يَردنا منه تعالى إلى مفاهيم كليّة هو الذي يُضعف هذه العلاقة الشّخصيّة.

إيجابيّة هذه المفاهيم الكليّة كما قلنا في بداية الحديث هي في أنّها تثبت كون الله موجودًا شخصيًّا حاضرًا ناظرًا ومحيطًا ومدبّرًا لكلّ صغير وكبير. يُفترض أن ننطلق من هنا لا أن نبقى عالقين هنا.

يُقال بأنّ وجود الأنبياء ومعهم الكتب السماويّة كان أفضل وسيلة إلهيّة للتعرّف على الله. هؤلاء لم يسلكوا سبيل الفلسفة وإن كان فيهم فلسفة. كانوا في الواقع أفضل مظهر لله وأعظم تجلٍّ لحضوره، وقد قدّموا تجربة رائعة عن هذه العلاقة الشخصيّة القريبة. تحدّثوا كثيرًا عن الله، لكنّ العقل الفلسفيّ التقليديّ عاد ليحدّ من تأثيرهم عبر سلوكه نهج التّأويل. صار كلُّ حدثٍ شخصيّ مؤوّلًا، ليوضع في بعض الخانات الكليّة.

كانت النزاعات الفلسفيّة، سواء ما دار منها حول تراث اليونان أو حول علم الكلام، هي التي تسوق النّاس في مجال معرفة الله. كان الله حاضرًا بشخصه وأصرّ هؤلاء على إبعاده إلى ما وراء السّماء. بعضهم قبل بأنّه إله في السّماء، لكنّهم استصعبوا أن يكون إلهًا في الأرض، لأنّ هذا سيعني أنّه يتجلّى في عالم المادّة والصّورة. والعقل يحيل ذلك! أضحى العقل هنا حجابًا سميكًا إلى الدّرجة التي انعدم معها الشّهود. وأضحى الشّهود بعدها قضية للنقاش. وجب على أهل الشّهود أن يستدلّوا على مشاهداتهم لأنّها نادرة.

كلما استبعدنا حضور الله في حياتنا فسحنا المجال للشّيطان لكي يعبث بإدراكاتنا. حين تستبعد أن ترى الله في شيء، فمن الطّبيعيّ أن يصبح ما تراه ممتزجًا بإلقاءات الشّيطان. هذه هي بداية الشّيطنة.

في المقابل حين نؤمن بما يُنسب إلى سيّد العارفين وإمام المتألّـهين من قوله: "ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه" فهذا يعني أنّنا بالحدّ الأدنى سنبحث عن الله في كلّ شيء. فلنبدأ من الأشياء الكبرى ذات التّأثير العميق أو المصيريّ في حياتنا. حتمًا سنجده هناك. يُذكّرنا الله تعالى بأنّ عاقبة الذين كفروا أنّـهم سيجدون الله؛ فكيف بالّذين آمنوا؟!

{وَالَّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ‏ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَريعُ الْحِساب‏}.[3]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]. التوحيد، ص 410.

[2]. سورة المطففين، الآية 15.

[3]. سورة النور، الآية 39.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد