
الحرّيّة من طاعة الآخرين
لا يحقّ لأيّ إنسانٍ التأمّر على إنسانٍ آخر وأمره ونهيه، وأنْ يضع له قانونًا إلّا إذا منح الإنسان هذا الحقّ باختياره إلى الآخرين وأذعن بطاعته له. هذا المعنى من الحرّيّة لا هو صحيح بنحوٍ مطلقٍ ولا باطل، ولا بدّ من التفصيل. إنّ من يتعلّق بهم الإنسان تعلّقًا وجوديًّا، يحقّ لهم التحكّم على الإنسان بمقدار تلك العقلة، ومن لا تعلّق وجودي له على الإنسان بأيّ نحو، لا يحقّ له التحكّم به بطبيعة الحال. وعليه يمكن لأمثال الأب والأم والمعلّم والمربّي أمر الإنسان ونهيه نوعًا مّا وطلب الطاعة والانقياد منه، بسبب نوعٍ من العلّيّة الوجوديّة الموجودة لهم عليه. أمّا من لا يملك هذا الدور، فأيّ حقٍّ له في التأمّر على الإنسان وطلب الانقياد منه طبقًا لآرائهم؟
ومع قطع النظر عن هذا، فإنّ لله تعالى الربوبيّة والمالكيّة التكوينيّة على الإنسان، بمعنى عدم امتلاك الإنسان أيّ شيءٍ لنفسه وكلّ ما عنده فمنه تعالى. وعليه فليس للإنسان حقٌّ بالأصالة على أيّ شيء، وتكون جميع تصرّفاته في الكون مشروطةً بإذن الله تعالى بطبيعة الحال. ولله الحقّ في أنْ أمر الإنسان، وتحديد حدود تصرّفاته. وعليه لو أذن الله تعالى لمجموعةٍ ونصبهم آمرين على الناس ووضع القانون لهم، لأصبح لهم حقّ الحكومة على الناس.
والحاصل أنّ مع قطع النظر عن أشخاصٍ من قبيل الأب والأم والمعلّم والمربّي الذي لهم دور في شأن الإنسان الوجودي، ولهم حقّ الأمر والنهي بتلك النسبة، ومع قطع النظر عن أولياء الله المنصوبين من قبل الله تعالى لوضع القانون وحقّ الحكومة على الناس، مع قطع النظر عن هؤلاء لا يمتلك سائر الناس حقّ الملكيّة والحكومة على الناس.
إذن فالمدّعى القائل: (لا يحقّ لأيّ إنسانٍ الحكومة على إنسانٍ آخر) لا يصحّ. والأكثر خطأ من ادّعى (لا يثبت لأيّ موجودٍ حقّ الحاكميّة على الإنسان). وبعبارة أخرى لا يكون أيّ إنسانٍ مكلّفًا أمام أيّ موجود. نعم هناك من يزعم أنّ الإنسان لا يتحمّل ذاتًا أيّ مسؤوليّةٍ أمام أيّ موجودٍ إلّا إذا اختار ذلك بنفسه ذلك. وهذه العقيدة تستفاد من كلمات كثيرٍ من طالبي الحرّيّة في الغرب وإنْ لم يصرّحوا به.
هذه العقيدة غير مقبولةٍ بتاتًا، مضافًا إلى أنّ الإنسان مسؤولٌ أمام وجدانه، كما أنّ الله تعالى خالق الإنسان والكون، وله حقّ الربوبيّة والمالكيّة التكوينيّة على جميع الموجودات لا سيّما الإنسان، وتنشأ ربوبيّته التكوينيّة هذه الربوبيّة التشريعيّة، وتقتضي ربوبيّته التشريعيّة عبوديّة الإنسان. وبعبارةٍ أُخرى أنّ جميع الموجودات ومنها الإنسان ملكٌ لله تعالى. فالإنسان لا يحقّ له أصالةً التصرّف في أيٍّ من الموجودات حتّى في نفسه، ويصبح له الحقّ بعد إذنه تعالى فقط.
وبناءً على هذا فإنّ تعيين كميّة التصرّفات وكيفيّتها من حقّ الله تعالى أيضًا، بمعنى لزوم تعلّم طريقة الحياة وكيفيّتها منه تعالى، وكلّ تصرّفٍ لا بدّ أنْ يكون وفقًا لما إذن به الله تمامًا؛ لذا يحقّ لله أنْ يسأل الإنسان عن أيّ عمل، فالإنسان مسؤولٌ من قبل الله في كلّ لحظاته، أيّ مسؤول أمام الله وهذه المسؤوليّة تنفي حرّيّة الإنسان أمام الله تعالى بقوّة. وعليه يمكن القول بأنّ الإنسان مسؤولٌ أمام الله أصالة؛ ولذا كان مسؤولًا أمام آخرين، فإنّها ناشئةٌ من مسؤوليّته أمام الله.
ولا بأس هنا بإعادة ما قلناه في مباحث فلسفة الأخلاق. كثيرًا ما يقال أنّ للإنسان ثلاث مسؤوليّات: مسؤوليته أمام الله، ومسؤوليته أمام نفسه، ومسؤوليته أمام المجتمع. ولكن لم تكن مسؤوليّة الإنسان من وجهة نظرٍ إسلاميّةٍ إلّا واحدة: أي المسؤوليّة أمام الله تعالى. منها تنشأ المسؤوليّة أمام النفس والمجتمع. بيان ذلك:
إنّ أركان المسؤوليّة ثلاثة دائمًا: السائل، والمسؤول، والمسؤول عنه أو مورد المسؤوليّة، فالسائل له حقّ التكليف والسؤال والمؤاخذة. والمسؤول من يُلقى عليه التكليف ويُؤاخذ عند المخالفة. والمسؤول عنه هو متعلّق المسؤوليّة بمعنى أنّ سؤال السائل من المسؤول يتعلّق به [أي المسؤول عنه]. يرى الإسلام أنّ الله تعالى هو السائل الوحيد والإنسان هو المسؤول، أمّا المسؤول عنه يمكن أنْ يكون الإنسان أو المجتمع أو الطبيعة أو غيرها. ولله وحده حقّ مساءلة الإنسان لِمَ فعلت؟ أو لِمَ لمْ تفعل كذا بخصوص نفسك، أو المجتمع، أو الطبيعة أو غيرها؟! إنّ الله تعالى جعل حقوقًا لنفسه، وللإنسان، والمجتمع، والطبيعة وغيرها، وكلّف الإنسان برعاية هذه الحقوق؛ لذا له الحقّ في أنْ يسأله دائمًا هل راعى حقوق نفسه والمجتمع والطبيعة أم لا؟ فالسائل دائمًا هو الله تعالى، ولا يحقّ السؤال لأيّ موجودٍ آخر أصالةً.
ففي الرؤية الإسلاميّة الدالّة على عبوديّة الموجودات كلّها تكوينًا لله لا سيّما الإنسان، الذي مضافًا إلى عبوديّته التكوينيّة لله فهو يعبده تشريعيًا أيضًا، ومسؤولٌ أمامه تعالى، في هذه الرؤية الإسلاميّة تكون حرّيّة الإنسان المطلقة تجاه جميع الموجودات خطأ تمامًا؛ إذ لا يكون الإنسان حرًّا أمام الله، يفعل ما يحلو له. فعبوديّة الإنسان التشريعيّة تعدّ من أصول ومباني الحقوق الإسلاميّة، ولا تنسجم مع نفي مسؤوليّة الإنسان بشكل مطلق. فالمدعى القائل بحرّيّة الإنسان وعدم مسؤوليّته أمام أيّ موجودٍ إلّا إذا اختار ذلك بنفسه مدّعًى باطل، ولا يعد ضمن مباني الحقوق، فالأصالة في حياة الإنسان للمسؤوليّة لا الحرّيّة.
الحرّيّة في الالتزام بالقانون وطاعة الحاكم
إنّ من لوازم الاعتقاد بعدم مسؤوليّة الإنسان أمام أيّ شيءٍ إلّا إذا تقبّل مسؤوليّة باختياره، أنّ له الحقّ في عدم الالتزام بأيّ قانونٍ وعدم طاعة أيّ حاكم، إلّا القانون أو الحاكم الذي يختاره. هذا المعنى من الحرّيّة الذي يعلّق طاعة القانون والحاكم باختيار الإنسان، ينفي ضرورة القانون والحكومة مطلقًا؛ إذ إنّ القانون الذي يعيّن حقوق أفراد المجتمع وتكاليفهم في الحياة الاجتماعيّة، إنّما وُضع للعمل به، فما هي حاجة وضع قانونٍ يُخيّر الإنسان في العمل به أو عدم العمل به؟ وما هي ضرورة قانون كهذا؟ فاعتبار القانون لا يعني إلّا تكليف الناس بالعمل والالتزام به.
فالقول بضرورة القانون من جهة، والاعتقاد بحريّة العمل به من جهةٍ ثانية، لا يكون إلّا تناقضًا. بل بالدليل نفسه الذي نثبت به ضرورة القانون نثبت لزوم العمل أيضًا. نعم هذا لا يعني لزوم التزام الناس بأيّ قانونٍ وإنْ وضعه من ليس له أهليّة ذلك، ففي الرؤية الإسلاميّة تنحصر مشروعيّة القانون وتكليف الناس بالعمل به بالقانون المستند إلى الله تعالى، والكلام نفسه يجري بخصوص الحاكم أيضًا.
ومع قطع النظر عن هذا فإنّ ربوبيّة الله التشريعيّة تقتضي بانحصار حقّ تعيين القانون والحاكم به، فيلزم طاعة القانون والحاكم الذي ينصبه الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب: 36).
فالتحرّر من القانون الذي وضعه الله، والتحرّر من طاعة الحاكم الذي نصبه الله أو ارتضى حكومته؛ مردودٌ تمامًا، ولا يجوز الخروج من حكومة القانون والحاكم الإلهي بأيّ وجه.
حرّيّة الإنسان في وضع القوانين ونصب الحكّام
هذا المعنى من الحرّيّة الذي يُعدّ الركن الأساس لنظريّة الديمقراطيّة السياسيّة، قد ورد التأكيد عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل أنْ يُخصّص له مكانًا في الإعلان كمادّة أساسيّة. فلو دقّقنا النظر في الإعلان لرأينا أنّه يؤكّد في كثيرٍ من الموارد تلويحًا ويشير إلى أنّ حقّ وضع القانون وتنصيب الحاكم يعود إلى الإنسان أصالةً، وليس لأيّ مصدرٍ آخر صلاحيّة تعيين هذين الأمرين المهمّين. فيحقّ لأفراد كلّ مجتمعٍ طاعة أيّ حاكمٍ وأيّ قانونٍ شاؤوا، وليس لأيّ مقامٍ آخر حقّ التدخّل في ذلك.
وخلافًا لهذه الرؤية نحن نعتقد بأنّ حقّ تعيين القانون والحاكم ينحصر في الله تعالى أصالةً، وليس للإنسان أيّ حقٍّ في ذلك، وعليه لا يحقّ لأفراد المجتمع الاعتراض على أيّ موردٍ وضع الله فيه قانونًا أو نصب حاكمًا. وفي غير هذه الصورة هناك من له صلاحيّة حقّ وضع القانون ونصب الحاكم بشرط ألّا يخالف عملهم أحكام الله أوّلًا، ويراعي مصالح الناس الواقعيّة ونفس الأمرية الدنيويّة والآخرويّة بشكلٍ كاملٍ ثانيًا. وثالثًا ــ وهو الأهم ــ أنْ يكون مأذونًا من قبل الله تعالى.
ففي الموارد التي لم يضع الله قانونًا أو لم ينصب حاكمًا، يحقّ للمؤذونين عنه التصدّي لهذين الأمرين المهمّين مع رعاية جميع أحكام الله ومصالح الناس المادّيّة والمعنويّة، وعليه فأفراد المجتمع غير أحرارٍ في اختيار أيّ قانونٍ أو حاكمٍ شاؤوا، وبهذه المنهجيّة يمكن شرح وتبيين ولاية الفقيه وحكومته زمن غيبة الإمام المعصوم .
معنى (منى) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
ثلاث خصال حمدية وثلاث قبيحة
الشيخ محمد جواد مغنية
النسيان من منظور الفلسفة الدينية (2)
الشيخ شفيق جرادي
معـاني الحرّيّة (3)
الشيخ محمد مصباح يزدي
(مفارقة تربية الأطفال): حياة الزّوجين بحلوها ومرّها بعد إنجابهما طفلًا من منظور علم الأعصاب الوجداني
عدنان الحاجي
المدينة الفاضلة المهدويّة
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ!
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
إلقاء موسى موسى (ع) الألواح، ومشاجرته أخاه هارون (ع)
الشيخ جعفر السبحاني
أدر مواقفك بحكمة
عبدالعزيز آل زايد
ما بعد فلسفة الدين…ميتافيزيقا بَعدية (5)
محمود حيدر
السيدة الزهراء: حزن بامتداد النّبوّات
حسين حسن آل جامع
اطمئنان
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
معنى (منى) في القرآن الكريم
ثلاث خصال حمدية وثلاث قبيحة
النسيان من منظور الفلسفة الدينية (2)
معـاني الحرّيّة (3)
(مفارقة تربية الأطفال): حياة الزّوجين بحلوها ومرّها بعد إنجابهما طفلًا من منظور علم الأعصاب الوجداني
نادي قوافي الأدبيّ بالأحساء يكرّم رئيسه الوسميّ على ما قدّمه خلال تولّيه إدراته لعشر سنوات
المدينة الفاضلة المهدويّة
معـاني الحرّيّة (2)
إيران: إطلاق موقع المحادثة مع تفاسیر القرآن الكريم بالذّكاء الاصطناعيّ
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ!