علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

الحاجة لوجود الإمام

تمهيد

إنّ الخلاف في كيفيّة تولّي منصب الإمامة والخلافة بعد النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم يتمحور حول شرعيّة تولّي هذا المنصب، أنّه هل يتم ذلك بواسطة التعيين، أو باختيار الناس، أو من خلال الشورى مثلاً؟

وذلك لأنّ المشكلة والخلاف الأساس يدور حول حقيقة الإمامة بعد النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم، وهل أنّ الإمامة منصبٌ إلهيٌ كمنصب النبوّة - خلا الوحي - فتكون الإمامة استمراراً لخطّ النبوّة في كلّ مجالاتها، فيكون دور الإمام ووظيفته عين دور النبيّ ووظيفته - كما يقول الشيعة؟ أو أنّ الإمامة هي مجرّد منصب دنيوي ينحصر دوره في إدارة شؤون الناس الحياتيّة، وسياستهم الدنيويّة - كما يقول السنّة؟

ويتفرّع على هذا الاختلاف، اختلافات أخرى:

منها: ما هي الشرائط، والمواصفات الّتي يجب أن يتحلّى بها من يتولّى هذا المنصب؟ وهل يُشترط فيه أن يحمل علماً خاصّاً أم لا؟

وهل يشترط أن يكون معصوماً عن المعصيّة والخطأ أم لا؟

وهل أنّ معرفة الشخص المؤهّل لهذا المنصب ممكنة لعامّة الناس؟ أو أنّ معرفته منحصرة باللَّه -تعالى-، وبالتّالي يحتاج إلى بيان وتنصيب من قِبَل اللَّه - تعالى -؟

إذاً فالخلاف ليس حول الشخص بقدر ما هو خلاف حول المفاهيم والمبادئ والشروط المتعلّقة بالإمامة والإمام.

وبذلك يتّضح لماذا طُرحت الإمامة عند الشيعة كأصل عقائدي، ولم تُطرح عندهم كفرع فقهي، كما هو الحال عند السنّة.

والإجابة عن هذه التساؤلات تتضح بملاحظة ما يأتي من عناوين...

 

ضرورة وجود الإمام

الكلام في ضرورة وجود الإمام يتحقّق ببيان أمرين:

1. ذكرنا فيما سبق أنّ تحقيق الهدف من خلق الإنسان مرتبط بهدايته بواسطة الوحي، وقد اقتضت الحكمة الإلهيّة بعثة أنبياء يُعلّمون البشر طريق السّعادة في الدّنيا والآخرة وهدايتهم للطّريق القويم، وصراط الحقّ المستقيم، وكذلك تربية الأشخاص المؤهّلين وإيصالهم لآخر مرحلة كماليّة يُمكنهم الوصول إليها، وكذلك القيام بتنفيذ الأحكام والتّشريعات الاجتماعيّة الدّينيّة فيما لو توافرت الظّروف الاجتماعية المناسبة لذلك.

2. تقدّم أنّ الدّين الإسلامي دين عالميّ وخالد، لا يُنسخ ولا يأتي بعد نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم نبيّ آخر، ولا يتوافق ختم النّبوّة مع الحكمة من بعثة الأنبياء عليهم السلام، إلّا إذا كانت الشّريعة السماويّة الأخيرة مستجيبة لجميع الاحتياجات البشريّة، إضافة إلى ضمان بقائها حتّى نهاية العالم. وقد توفّر القرآن الكريم على هذا التّكفّل والضّمان، فقد تعهّد الله -تعالى- بحفظ هذا الكتاب العزيز من كلّ تغيير وتحريف، إلّا أنّه لا يتأتّى استفادة جميع الأحكام والتّعاليم الإسلاميّة من ظواهر الآيات الكريمة.

فلا يمكن التّعرُّف من القرآن الكريم إلى عدد ركعات الصلاة، وطريقة أدائها، والكثير من الأحكام وتفصيلاتها المرتبطة بها مثلاً. وليس القرآن الكريم في مقام بيان تفاصيل الأحكام والتّشريعات، بل وضع مهمّة بيانها على عاتق النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم (1)، من خلال العلم الّذي وهبه اللَّه -تعالى- له (غير الوحي القرآني) ومن هنا تثبت حجيّة سنّة النّبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم  واعتبارها كمصدر من المصادر الأصيلة لمعرفة الإسلام.

إلّا أنّ الظّروف الصّعبة الّتي عاشها النّبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الدعوة، وسنوات الحصار في شعب أبي طالب، ثمّ عشرة أعوام من القتال مع أعداء الإسلام، لم تسمح له ببيان جميع الأحكام والتّشريعات الإسلاميّة للنّاس كافّة. وحتّى ما تعلّمه الأصحاب، لا يوجد ما يضمن الحفاظ عليه، فقد اختلف في طريقة وضوئه صلى الله عليه وآله وسلم، بالرّغم من أنّها كانت بمرأى من المسلمين لسنوات طويلة. فإذا كانت أحكام هذا العمل معرّضة للاختلاف -وهو عمل يحتاجه جميع المسلمين ويمارسونه يوميّاً، مع عدم وجود دوافع للتّحريف والتّغيير العمدي فيه- فإنّ خَطَرَ الخطأ والاشتباه في النّقل، والتّحريفات المتعمّدة أشدّ وأكثر في مجال الأحكام الدقيقة، وخاصّة تلك الأحكام والتّشريعات الّتي تصطدم مع أهواء بعض الأفراد، وأطماع بعض الجماعات ومصالحهم (2).

 

الأدلّة العقليّة على عصمة الإمام وعلمه

ومن خلال هذه الملاحظات يتّضح أنّه يمكن طرح الدّين الإسلامي كدين كامل وشامل يستجيب لكلّ الاحتياجات ولجميع البشر، حتّى نهاية العالم، فيما لو افترض وجود طريق لتوفير المصالح الضّروريّة للأمّة في داخل الدّين نفسه، تلك المصالح الّتي يمكن أن تتعرّض للتّهديد والتّدمير مع وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا يتمثّل هذا الطّريق إلّا في تعيين الخليفة الصّالح للرّسول صلى الله عليه وآله وسلم، هذا الخليفة الّذي يملك العلم الموهوب من اللَّه -تعالى-، ليُمْكنه بيان الحقائق الدّينيّة بكلّ أبعادها وخصوصيّاتها، ويتمتّع بملكة العصمة، حتّى لا يخضع لتأثير الدّوافع النفسانيّة والشّيطانيّة، وحتّى لا يرتكب التّحريف العمدي في الدّين، وكذلك يمكنه القيام بالدّور التّربوي الّذي كان يمارسه النّبيّ، لا سيّما مع الأفراد المؤهّلين، ولإيصالهم إلى أرفع درجات الكمال. وكذلك -حين تتوافر الظّروف الاجتماعيّة الملائمة- يتصدّى للحكومة وتدبير الأمور العامّة في الأمّة الإسلاميّة، وتنفيذ التّشريعات الاجتماعية الإسلاميّة، وتطبيقها ونشر الحقّ والعدالة في العالم. والحاصل: إنّ ختم النّبوّة إنّما يكون موافقاً للحكمة الإلهيّة فيما لو اقترن بتعيين الإمام المعصوم، هذا الإمام الّذي يمتلك خصائص نبيّ الإسلام  صلى الله عليه وآله وسلم كلّها عدا النّبوّة والرّسالة.

وبذلك تثبت ضرورة وجود الإمام، وكذلك ضرورة توفّره على العلم الموهوب من اللَّه - عزَّ وجلَّ -، ومقام العصمة، ولزوم تعيينه ونصبه من قِبل اللَّه -تعالى-؛ لأنّه -عزَّ وجلَّ- وحده الّذي يعرف الشّخص الذي أُفيض عليه هذا العلم والعصمة، وهو الّذي يملك حقّ الولاية على عباده أصالة، ويمكنه منح مثل هذا الحقّ في درجة أدنى لأفراد يتمتّعون بشروط معيّنة.

فإذاً، كما حَكَمَ العقل بلزوم عصمة النّبيّ وغيرها من الصّفات الكماليّة، يحكم أيضاً بضرورتها لكلّ من يتولّى وظائف النّبيّ وأدواره، عدا الصّفات المختصّة به كنبيّ وذلك كالوحي الّذي ثبت أنّه لا يكون إلا للنبيّ دون غيره ولو كانوا أصحاب عصمة.

 

عثرات الخلفاء عند السنّة

وممّا يلزم التأكيد عليه، أنّ غير الشيعة لا يقولون بمثل هذه الخصائص لأيّ خليفة من الخلفاء، فلا يدّعون نصبه وتعيينه من اللَّه - تعالى - والنّبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم، ولا توفّر الخلفاء على العلم الموهوب من اللَّه -تعالى-، ولا ملكة العصمة. بل إنّهم نقلوا في كتبهم المعتبرة عثراتهم واشتباهاتهم وعجزهم في الإجابة عن أسئلة النّاس الدّينيّة. أمّا عثرات خلفاء بني أميّة وبني العبّاس، فهي أوضح من أن تُذكر، ويعرفها كلّ من له أدنى اطّلاع على تاريخ المسلمين. والشّيعة وحدهم الّذين يعتقدون بوجود الشّروط الثّلاثة في الأئمّة الاثني عشر من بعد النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم. ويثبت ممّا ذكرنا صحّة اعتقادهم في مسألة الإمامة، ولا يحتاج ذلك للأدلّة الموسّعة والمفصّلة، ومع ذلك ستتمّ الإشارة في الدّرس القادم إلى بعض الأدلّة المقتبسة من الكتاب والسّنّة.

 

الإمامة منزلة الأنبياء عليهم السلام

ورد عن الإمام الرّضا عليه السلام في مقطع من رواية عبد العزيز عنه عليه السلام: "إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء عليهم السلام وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة اللَّه -عزَّ وجلَّ-، وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين، وميراث الحسن والحسين عليهم السلام، إنّ الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أُسّ الإسلام النّامي، وفرعه السّامي، بالإمام تمام الصلاة، والزكاة، والصّيام والحجّ، والجهاد، وتوفير الفيء، والصّدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثُغور والأطراف. الإمام يُحلّ حلال اللَّه، ويُحرّم حرام اللَّه، ويُقيم حدود اللَّه، ويذبّ عن دين اللَّه ويدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجّة البالغة.

الإمام كالشّمس الطّالعة للعالم وهي بالأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار. الإمام البدر المنير، والسّراج الزّاهر والنّور السّاطع، والنّجم الهادي في غياهب الدّجى، والبيدِ القفارِ، ولججِ البحار»(3).

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ سورة البقرة: الآية 151، وانظر أيضاً السور التالية: آل عمران: 461، والجمعة: 2، والنحل: 44، و46، والأحزاب: 12، والحشر: 7.

(2) ذكر العلامة الأميني g في كتابه "الغدير" أسماء سبعمائة من الوضّاعين للأحاديث، ونسب لبعضهم أنه وضع ما يناهز مئة ألف حديث، يراجع الغدير، ج5، ص802، وما بعدها.

(3) الكافي، الشيخ الكليني، ج1، مصدر مذكور، ص198-203.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد