علمٌ وفكر

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد مصباح يزدي
عن الكاتب :
فيلسوف إسلامي شيعي، ولد في مدينة يزد في إيران عام 1935 م، كان عضو مجلس خبراء القيادة، وهو مؤسس مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحث العلمي، له مؤلفات و كتب عدیدة فی الفلسفة الإسلامیة والإلهیات والأخلاق والعقیدة الإسلامیة، توفي في الأول من شهر يناير عام 2021 م.

دور الميل والرّغبة في الإدراك

إنّنا نملك حريّة الاستفادة من القوى والوسائل الإدراكيّة إلى حدّ كبير، فمتى شئنا حدّقنا في منظر معيّن ورضًا نتفرّج، ومتى شئنا غضضنا النظر عنه. وهنا يمكن أن نتصوّر أنه عند انفتاح العين ووجود النور، فليست هناك حالة منتظرة لرؤية الشيء الذي يتمثّل أمامنا، في حين أنّ الحقيقة تثبت خلاف هذا التصوّر؛ ذلك أنّه في كثير من الأحيان نجد أنفسنا لا نرى الشيء، على الرغم من انعكاس صورة المرئيّ في العين، وعلى الرغم من ارتعاش طبلة الأذن بواسطة أمواج الصوت، لكنّها لا تسمع شيئًا، وذلك عندما يتركّز انتباهنا على شيء آخر.

ومن هنا، يتضّح أنّ الإدراك ليس ظاهرة فيزياويّة أو عملًا فيزيائيًّا فحسب، وإنّما هو في الواقع عمل النفس، فإذا توجّهت النفس حصل الإدراك وإلّا انتفى. أمّا الانفعالات المادّيّة، فهي تشكّل شرائط الإدراك ومقدّماته، ثمّ إنّ وجود التوجّه وعدمه في كثير من الأحيان يرتبط بالميل والشوق الباطنيّ للإنسان، بمعنى أنّه حين يميل الإنسان إلى إدراك خاصّ، فإنّ توجّه النفس يتّجه نحوه، ويحصل الإدراك مع وجود الشرائط اللازمة، في حين أنّه على العكس من ذلك عندما لا يوجد الميل لا تتوجّه النفس ولا تدركه بالتالي.

 

فمثلًا قد يرتفع صوت طفل من زاوية، فلا يسمعه إلّا أمّ الطفل، حتى أنّها قد تنهض من نومها على صوت بكاء طفلها، ولكنّها لا تنهض على صوت أعلى من شخص آخر. ليس هناك أيّ تبرير سوى العامل النفسيّ وشوق الأمومة، ولا ينحصر تأثير الميل والشّوق في الإدراك بالإدراكات الحسّيّة، وإنّما يتوافر في التّخيّلات والأفكار، وحتى أنّه يتوافر في الاستتاجات العقلية بصورة مختلفة.

فمثلًا يجد الإنسان نفسه ذا ذاكرة قويّة بالنسبة إلى الأشياء التي يميل إليها بشكل أقوى، وتتقدّم النشاطات الفكريّة في مجال الموضوعات التي يألفها ويرتاح إليها الشخص المفكّر بشكل أحسن، والأعجب من ذلك أنّ الكثير من الأشخاص يصلون إلى النتائج الفكريّة التي كانوا يرغبون فيها قلبيًّا، فهم يلهمونها، ولكنّهم يظنّون أنّهم وصلوا إليها بشكل طبيعيّ، من استدلال عقلي، في حين كان للميل الباطني لهم الأثر الكبير في اختيار مقدّمات الدليل أو في كيفيّة تنظيمها، وربما أوجبت المغالطة: ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ (1).

 

توضيح ذلك أنّ عدم ميل الإنسان للوصول إلى نتيجة فكرية ما يراها تتنافى مع متطلّباته قد توجب غفلته وعدم تفكيره فيها، وقد توجب الغفلة عن المقدّمات اللازمة للاستدلال أو الشكل الصحيح لتنظيم المقدّمات. وفي حالة ما إذا وصل إلى هذه النتيجة التي لا يرغب فيها، وخلافًا لرغبته الشخصيّة، فإنهّ يبدأ بالتشكيك وإيجاد الشبه في ما توصّل إليه، فإذا كان الدليل واضحًا تمامًا لا يبقى أيّ مجالٍ للشبهة يصل الدور إلى خيانة الذاكرة، فما أسرع ما يسلّمها الإنسان للنسيان!! ولو حصل أنّ عاملًا ما ذكّره بها، فإنه سيمتنع عن التسليم القلبيّ والإيمان بها وينكرها بكلّ لجاجة، ومثل ذلك في مقام التفريق بين العلم والإيمان: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ﴾ (2).

على هذا، فإنّ الإنسان متى ما صان نفسه عن الوقوع تحت تأثير الميول المخالِفة اطمأنّ إلى نتائجه الفكرية، وإلّا فما دام الهوى هو الذي يمسك بالزمام، فإنّ الميل للمادّيّات والشهوات والجاه والمقام وباقي المتطلّبات الجامحة سوف تجلب توجّه النفس إليها، ويقلّ الأمل في الوصول إلى استنتاجات صحيحة من النشاطات الذهنيّة والفكريّة في المجالات المتعلّقة بذلك.

 

وفي مجال العلم الحضوريّ والتوجّه إلى الوجدانيات، يوجد للميول والأشواق القلبيّة دورٌ مهمّ. فالحالات النفسيّة والانفعالات الروحيّة الحاضرة لدى النفس قد تدخل عالم اللاشعور على أثر انعطاف التوجّه النفسيّ عنها، فيغفل عنها الإنسان، فلا يكون لديه -كما يعبّر الفلاسفة- العلم بالعلم، وكذلك تلك المرتبة التي تملكها النفس من العلم الحضوريّ بالله -تعالى-، فقد تغفل عنها على أثر الانشداد للمادّيّات والتعلّق بها، اللّهمّ إلّا إذا انقطعت الوسائل المادّيّة المعيقة.

على هذا، فإنّ الاستثمار الصحيح للقوى الإدراكيّة إنّما يتيسّر إذا كان القلب طاهرًا من أنماط الدّرن المادّيّ والهوى النفسيّ، والذهن خاليًا من الأحكام المسبقة، متزيّنًا بالتقوى المناسِبة. فالتكامل في مدارج التقوى هو الذي يصوغ الإنسان مستعدًّا لتلقّي الأنوار المعنويّة والإلهامات الملائكيّة والربانية:

﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (3).

﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (4).

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (5).

﴿إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ (6).

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ (7).

وفي قبال ذلك، يشكّل اتّباع الهوى النفسيّ والتعلّق بالدنيا سببًا للانخداع والضلال والحرمان من إدراك الصحيح، بل سببًا للتسلّط الشيطاني، ومزيدًا من الجهل والضلال، والجهل المركّب وعمى القلب.

﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (8).

﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ (9).

﴿وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ - وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ (10).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1).. سورة القيامة، الآية 5.

(2). سورة النجم، الآية 23.

(3).  سورة ق، الآية 37.

(4). سورة البقرة، الآية 2.

(5). سورة الشمس، الآيتان 9 و 10.

(6). سورة الأنفال، الآية 29.

(7). سورة الحديد، الآية 28.

(8). سورة الجاثية، الآية 23.

(9). سورة الحج، الآية 4.

(10). سورة الزخرف، الآيتان 36 و 37.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد