
إنّ المتسلّطين المتعنّتين يستغلّون نقاط الضعف النفسيّة لدى الغوغاء من الناس لتحريكهم ـ عادةً ـ لمعرفتهم بالنفسيات ومهارتهم في عملهم! وكذلك فعلوا في هذه حادثة إحراق إبراهيم (ع)، وأطلقوا شعارات تثير حفيظتهم، فقالوا: إنّ آلهتكم ومقدّساتكم مهدّدة بالخطر، وقد سُحقت سنّة آبائكم وأجدادكم، فأين غيرتكم وحميّتكم؟! لماذا أنتم ضعفاء أذلاّء؟ لماذا لا تنصرون آلهتكم؟ احرقوا إبراهيم وانصروا آلهتكم ـ إذا كنتم لا تقدرون على أي عمل ـ ما دام فيكم عرق ينبض، ولكم قوّة وقدرة. انظروا إلى كلّ الناس يدافعون عن مقدّساتهم، فما بالكم وقد أحدق الخطر بكلّ مقدّساتكم؟!
والخلاصة، فقد قالوا الكثير من أمثال هذه الخزعبلات وأثاروا الناس ضدّ إبراهيم بحيث أنّهم لم يكتفوا بعدّة حزم من الحطب تكفي لإحراق عدّة أشخاص، بل أتوا بآلاف الحزم وألقوها حتّى صارت جبلاً من الحطب ثمّ أشعلوه فاتّقدت منه نار مهولة كأنّها البحر المتلاطم والدخان يتصاعد إلى عنان السّماء لينتقموا من إبراهيم أوّلاً، وليحفظوا مهابة أصنامهم المزعومة التي حطّمتها خِطّته وأسقطت أبّهتها!!
لقد كتب المؤرخّون هنا مطالب كثيرة، لا يبدو أي منها بعيداً، ومن جملتها قولهم: إنّ الناس سعوا أربعين يوماً لجمع الحطب، فجمعوا منه الكثير من كلّ مكان، وقد وصل الأمر إلى أنّ النساء اللاتي كان عملهنّ الحياكة في البيوت، خرجن وأضفن تلاًّ من الحطب إلى ذلك الحطب، ووصّى المرضى المشرفون على الموت بمبلغ من أموالهم لشراء الحطب، وكان المحتاجون ينذرون بأنّهم يضيفون مقداراً من الحطب إذا قضيت حوائجهم، ولذلك عندما أشعلوا النّار في الحطب من كلّ جانب اشتعلت نار عظيمة بحيث لا تستطيع الطيور أن تمرّ فوقها.
من البديهي أنّ ناراً بهذه العظمة لا يمكن الاقتراب منها، فكيف يريدون أن يلقوا إبراهيم فيها، ومن هنا اضطروا إلى الاستعانة بالمنجنيق، فوضعوا إبراهيم عليه وألقوه في تلك النّار المترامية الأطراف بحركة سريعة (1).
ونقرأ في الرّوايات المنقولة عن طرق الشّيعة والسنّة أنّهم عندما وضعوا إبراهيم على المنجنيق، وأرادوا أن يلقوه في النّار، ضجّت السّماء والأرض والملائكة، وسألت الله سبحانه أن يحفظ هذا الموحّد البطل وزعيم الرجال الأحرار.
ونقلوا أيضاً أنّ جبرئيل جاء للقاء إبراهيم، وقال له: ألك حاجة؟ فأجابه إبراهيم بعبارة موجزة : «أمّا إليك فلا» إنّي أحتاج إلى من هو غني عن الجميع، ورؤوف بالجميع. وهنا اقترح عليه جبرئيل فقال: فاسأل ربّك، فأجابه: «حسبي مِن سؤالي علمه بحالي» (2).
وفي حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) : إنّ إبراهيم ناجى ربّه في تلك الساعة: «يا أحد يا أحد، يا صمد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، توكّلت على الله» (3). كما ورد هذا الدعاء بعبارات مختلفة وفي العديد من المصادر الأخرى.
وعلى كلّ حال، فقد ألقي إبراهيم في النّار وسط زغاريد الناس وسرورهم وصراخهم، وقد أطلقوا أصوات الفرح ظانّين أنّ محطّم الأصنام قد فني إلى الأبد وأصبح تراباً ورماداً. لكنّ الله الذي بيده كلّ شيء حتّى النّار لا تحرق إلاّ بإذنه، شاء أن يبقى هذا العبد المؤمن المخلص سالماً من لهب تلك النّار الموقدة ليضيف وثيقة فخر جديدة إلى سجل افتخاراته، وكما يقول القرآن الكريم: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء : 69].
لا شكّ أنّ أمر الله هنا كان أمراً تكوينيّاً، كالأمر الذي يصدره في عالم الوجود إلى الشمس والقمر، والأرض والسّماء، والماء والنّار، والنباتات والطيور. والمعروف أنّ النّار قد بردت برداً شديداً اصطكت أسنان إبراهيم منه، وحسب قول بعض المفسّرين: إنّ الله سبحانه لو لم يقل: سلاماً، لمات إبراهيم من شدّة البرد. وكذلك نقرأ في رواية مشهورة أنّ نار النمرود قد تحوّلت إلى حديقة غناء (4). حتّى قال بعض المفسّرين إنّ تلك اللحظات التي كان فيها إبراهيم في النّار، كانت أهدأ وأفضل وأجمل أيّام عمره (5).
على كلّ حال، فهناك اختلاف كبير بين المفسّرين في كيفية عدم إحراق النّار لإبراهيم، إلاّ أنّ مجمل الكلام أنّه في فلسفة التوحيد لا يصدر أي مسبّب عن أي سبب إلاّ بأمر الله، فيقول يوماً للسكّين التي في يد إبراهيم: لا تقطعي، ويقول يوماً آخر للنار: لا تحرقي، ويوماً آخر يأمر الماء الذي هو أساس الحياة أن يغرق فرعون والفراعنة!
ويقول الله سبحانه: إنّهم تآمروا عليه ليقتلوه ولكن النتيجة لم تكن في صالحهم {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء : 70] .لا يخفى أنّ الوضع قد اختلف تماماً ببقاء إبراهيم سالماً، وخمدت أصوات الفرح، وبقيت الأفواه فاغرة من العجب، وكان جماعة يتهامسون علناً فيما بينهم حول هذه الظاهرة العجيبة، وأصبحت الألسن تلهج بعظمة إبراهيم وربّه، وأحدق الخطر بوجود نمرود وحكومته، غير أنّ العناد ظلّ مانعاً من قبول الحقّ، وإن كان أصحاب القلوب الواعية قد استفادوا من هذه الواقعة، وزاد إيمانهم مع قلّتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ مجمع البيان، وتفسير الميزان، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير القرطبي. وكذلك الكامل لابن الأثير المجلّد الأوّل ص98.
2 ـ روضة الكافي ، طبقاً لنقل الميزان ، ج14 ، ص336.
3 ـ تفسير الفخر الرّازي.
4 ـ تفسير مجمع البيان.
5 ـ تفسير الفخر الرازي.
التمهيد إلى ميتافيزيقا إسلاميّة بَعديّة (2)
محمود حيدر
القضاء في المدينة المهدويّة
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
بيوت تحيا فيها المحبّة (1)
الشيخ حسين مظاهري
معنى (رأس) في القرآن الكريم
الشيخ حسن المصطفوي
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
ضربت عليهم الذلّة
الشيخ محمد جواد مغنية
طبيعة الحق، وحقوق الحاكم على الرّعيّة عند الإمام (ع)
الشيخ محمد مهدي شمس الدين
﴿حِطَّةٌ﴾ و﴿ رَاعِنَا﴾ الأصل اللّغوي والمعنى
الشيخ محمد صنقور
تخفيضات الجمعة البيضاء من منظور علم النفس - كيف نقاوم إغراءاتها؟
عدنان الحاجي
الهداية والقدوة
الشيخ شفيق جرادي
السيدة الزهراء: وداع في عتمة الظلمات
حسين حسن آل جامع
واشٍ في صورة حفيد
حبيب المعاتيق
أيقونة في ذرى العرش
فريد عبد الله النمر
سأحمل للإنسان لهفته
عبدالله طاهر المعيبد
خارطةُ الحَنين
ناجي حرابة
هدهدة الأمّ في أذن الزّلزال
أحمد الرويعي
وقف الزّمان
حسين آل سهوان
سجود القيد في محراب العشق
أسمهان آل تراب
رَجْعٌ على جدار القصر
أحمد الماجد
خذني
علي النمر
التمهيد إلى ميتافيزيقا إسلاميّة بَعديّة (2)
القضاء في المدينة المهدويّة
بيوت تحيا فيها المحبّة (1)
معنى (رأس) في القرآن الكريم
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
ضربت عليهم الذلّة
طبيعة الحق، وحقوق الحاكم على الرّعيّة عند الإمام (ع)
التمهيد إلى ميتافيزيقا إسلاميّة بَعديّة (1)
في الكفاف في الرّزق
﴿حِطَّةٌ﴾ و﴿ رَاعِنَا﴾ الأصل اللّغوي والمعنى