قرآنيات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد محمد باقر الحكيم
عن الكاتب :
عالم فقيه، وأستاذ في الحوزة العلمية .. مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، استشهد سنة٢٠٠٣

الخصائص الأساسيّة للقصّة في القرآن

يمكن أن نحدّد الفرق بين القصص القرآني وغيره من القصص ببعض النقاط التي تشكل الميزات والخصائص والصفات الرئيسة للقصص القرآني، ويمكن أن نجد هذه الخصائص قد أشير إليها في القرآن الكريم في قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

حيث يمكن أن نفهم من هذه الآية اتّصاف القصص القرآني بالصفات التالية:

الواقعية، والصدق، والحكمة، والأخلاقية..

أ ـ الواقعية، بمعنى ذكر الأحداث والقضايا والصور في القصص القرآني التي لها علاقة بواقع الحياة الإنسانية ومتطلباتها المعاشة في مسيرة التاريخ الإنساني، مقابل أن تكون القصّة إثارة وتعبيرَا عن الصور، أو الخيالات، أو الأماني، أو الرغبات التي يطمح إليها الإنسان، أو يتمناها في حياته؛ ذلك لأنّ القرآن الكريم يريد من ذكر القصّة وأحداثها إعادة قراءة التأريخ الإنساني والقضايا الواقعية السالفة، الذي عاشته الأمم والرسالات الإلهيّة السابقة، ومتابعة هذه القراءة في الحاضر المعاش من قبل الإنسان للاستفادة منها والاعتبار بها في حياته وحركته ومواقفه وتطلعاته نحو المستقبل والكمالات الإلهيّة.

فإذا انفصلت القصّة عن هذا الواقع فلا يمكن للإنسان أن يستفيد منها للحاضر والمستقبل؛ لأنّها تصبح مجرد صور وفرضيات قد تنسجم مع واقعه الفعلي، وربّما لا تنسجم، ولذا ربّما لا يشعر بها، ولا يصدّق بها نفسيًّا وروحيًّا.

والإنسان ـ في مسيرته التكاملية ـ بحاجة إلى أن ينطلق من (الواقع) نحو الطموحات والكمالات، وبدون ذلك سوف ينفصل هذا الإنسان عن واقعه، فيضيع في متاهات الآمال والتمنيات، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحالة في الإنسان عندما تحدّث عن اليهود من أهل الكتاب بقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).

وعندئذ لا يصل الإنسان إلى أهدافه في النهاية؛ لأنّ من لا ينطلق من البداية فلا يبلغ النهاية.

ومن هنا نجد القرآن الكريم يحاول أن يعالج من خلال القصّة الواقع الذي كان يعيشه المسلمون في زمن النبي، فيذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحية، كما يعالج الواقع الذي تعيشه الأجيال والعصور الإنسانية المستقبلية من ناحية أخرى.

وهذا هو الذي يفسّر لنا ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم ‌السلام من قولهم: «إنّ القرآن يجري مجرى الشمس والقمر» و«إنّه حي لا يموت»، فإنّ انطباق هذا الكلام على القصص والأحداث ذات العلاقة بالأنبياء وأقوالهم أو بالتاريخ الماضي إنّما هو بلحاظ هذا البعد والصفة في القصّة القرآنية.

ولعل قوله تعالى في سورة يوسف : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ...) إشارة إلى هذه الصفة في القصص القرآني.

 

ب ـ الصدق في ذكر الأحداث والوقائع التاريخية التي تعرّض لها الأنبياء وأقوامهم في حياتهم، وذلك في مقابل (الأكاذيب) الباطلة و(الانحرافات) في الفهم والسلوك، أو (الخرافات) التي اقترنت بقصص الأنبياء في كتب العهدين المعروفين بسبب ما تعرضا له من ضياع وتحريف للحقائق عن قصد أو بدون قصد أو اشتباه أو جهل.

فما ورد في القرآن من أخبار وحوادث هي أمور وحقائق ثابتة ليس فيها كذب أو خطأ أو اشتباه، كما حصل في كتب العهدين؛ لأنّ القرآن وحيّ إلهيّ، والله لا يعزب عن علمه ذرة في السماء والأرض، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والحاضر والماضي والمستقبل عنده سواء. ويؤكد هذه الحقيقة ما ورد في قوله تعالى: (... ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ....)

والفرق بين هذه الصفة والصفة الأولى لا بدّ أن يكون واضحًا؛ لأنّه يراد من الصفة الأولى (الواقعية) ما يكون جاريًا في حياة الناس المعاشة، والواقع المناسب لحياة الناس قد يكون صدقًا جرى في حياة الناس، وقد يكون كذبًا لم يحدث ولم يحصل في حياتهم، وأمّا هذه الصفة فيراد منها (الصدق) الذي قد حدث وحصل في الخارج.

وتفتح هاتان الصفتان والميزتان أمامنا باب البحث والمقارنة بين القصص القرآني وقصص العهدين، سواء فيما يتعلق بالحوادث والحقائق أو فيما يتعلق بالصور والمفاهيم والسلوك، ومدى انطباقها على واقع الحياة الإنسانية.

كما تفتح الصفة الثانية باب البحث عن موضوع المقارنة التاريخية بين ما ذكره القرآن الكريم من أحداث وما دلت عليه الأبحاث (الآثارية) من معلومات تاريخية.

بعض الباحثين في هذا المجال يحاول أن يتبنّى في الأحداث والوقائع التي يذكرها القرآن الكريم رأيًا آخر؛ لأنّه يحتمل أنّ القرآن الكريم لم يلتزم ويهتم بالتأكد من صدق الحوادث التاريخية التي يستعرضها ويتحدّث عنها، بل اكتفى بذكر ما هو معروف من هذه الحوادث بين الناس والجماعات وفي الأوساط العامّة التي نزل القرآن فيها؛ لأنّ هدفه من ذكر هذه الحوادث ليس هو التاريخ، بل هدفه استخلاص العبرة منها فقط، وهو أمر يحصل حتى لو لم تكن هذه الحوادث صادقة أو دقيقة.

وقد ناقش العلّامة الطباطبائي هذا الرأي بشيء من التفصيل، فقال ما ملخصه:

«إنّ القرآن الكريم ليس كتابًا تاريخيًّا ولا صحيفة من الصحف القصصيّة التخيلية، وإنّما هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ كما نصّ على ذلك ـ وإنّه لا يقول إلّا الحقّ، وليس بعد الحقّ إلّا الضلال.

وليس هذا لأنّ مقتضى الإيمان بالله ورسوله أن ينفى عن القرآن اشتماله على الباطل والكذب، بل لأنّ القرآن كتاب يدّعي لنفسه أنّه كلام إلهي موضوع لهداية الناس إلى حقيقة سعادتهم وإلى الحقّ، ومن الواجب على من يفسر كتابًا هذا شأنه أن يفترضه صادقًا في حديثه مقتصرًا على ما هو الحقّ الصريح في خبره».

 

ج ـ التربية على الأخلاق الإنسانية العالية، في مقابل التركيز على الأحاسيس والانفعالات في شخصية الإنسان، والتربية على الاهتمام بالغرائز.

وإنّما اتّصفت في القرآن (بالأخلاقية)؛ لأنّ المسيرة والحركة التكاملية للإنسان ـ سواء على مستوى الفرد أو الجماعة ـ إنّما تقوم على أساس الأخلاق بعد العقيدة بالله تعالى والرسالات واليوم الآخر، بل إنّ الاتصاف بالأخلاق العالية هو الذي يمثل عنصر التكامل الحقيقي في حركة الإنسان الفردية والجماعية، ولذا كانت قاعدة المجتمع الإنساني في نظر الإسلام قاعدة أخلاقية، والسلوك الراقي للإنسان هو السلوك الأخلاقي. وقد ورد عن رسول الله صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله قوله: «إنّما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق».

لذا جاءت القصّة في القرآن الكريم ذات طابع أخلاقي وللتربية على الإيمان بالله والأخلاق، مثل الإيمان بالغي ، أو على التسليم والخضوع لله تعالى والحكمة الإلهية، أو على الأخلاق الإنسانية العالية، كالصبر والإخلاص والحبّ لله تعالى والتضحية في سبيله والشجاعة والاستقامة في العمل والقدوة الحسنة.

 

د ـ الحكمة، وكشف الحقائق الكونية، والسنن التاريخية، والقوانين والأسباب التي تتحكم أو تؤثر في مسيرة الإنسان، وعلاقاته الاجتماعية، والحياة الكونية المحيطة به؛ لأنّ هذه الحقائق الكونية لها علاقة بمسيرة الإنسان التكاملية ما دام الله ـ تعالى ـ أراد لهذا الإنسان أن يكون مختارًا في حياته ومستخدمًا للعلم والحكمة في مسيرته.

ولذا كان من أهداف (النبوة) تعليم الكتاب والحكمة حتى ينتفع بها الإنسان في مسيرته. ولكن هنا لا بدّ أن نشير إلى أنّ القرآن الكريم ـ باعتبار هذه الخصوصية ـ يقتصر في ذكر الحوادث التاريخية على ما يكون له علاقة بهذه الصفة وهذا الهدف.

ولعله لهذه الصفة أشارت الآية من سورة يوسف بقوله تعالى : (... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ...) إلى قاعدة (ينفتح من كل باب ألف باب) وعلى وزن قوله تعالى: (... وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) ما ورد في روايات أهل البيت عليهم ‌السلام أنّه جاء في القرآن كلّ شيء.

وهذا بخلاف ما لو كانت القصّة في القرآن الكريم لمجرد التسلية أو لتدوين الحوادث والوقائع التاريخية، كما هو شأن كتب التاريخ، فإنّ ذلك قد يتطلب التوسع بذكر الحوادث والتفاصيل خصوصا المثيرة والمسلية.

وقد حاول الشيخ محمد عبده أن يضيف سببًا آخر يفسر فيه عدم تعرض القرآن الكريم لذكر التفاصيل في القصص القرآني؛ وهو: «أنّ تسجيل الحوادث التاريخية بتفاصيلها يؤدّي في النهاية إلى الوقوع في الأخطاء الكثيرة، وهذا ما تجنبه القرآن، ولذا اقتصر على ذكر الكليات والعموميات» ولكن هذه المحاولة غير صحيحة؛ لسببين:

الأوّل: أنّ القرآن الكريم هو وحي إلهيّ ولا يمكن أن نتصوّر فيه الخطأ والاشتباه سواء تناول الجزئيات أو الكليات.

الثاني: أنّ القرآن الكريم تناول ـ أحيانًا ـ بعض التفاصيل الصغيرة في قصص الأنبياء لأغراض معينة، مثل: تأكيد عدم صلب المسيح وكيفية ولادته، أو تفاصيل الحياة الشخصية لموسى في ولادته وتربيته، وخروجه من مصر، وهجرته ورجوعه.

يقول العلّامة الطباطبائي في تأكيد هذا الجانب من النظرية والفهم:

«والقرآن الكريم كتاب دعوة وهداية لا يتخطى عن صراطه ولو خطوة، وليس كتاب تاريخ ولا قصّة، وليست مهمته مهمة الدراسة التاريخية، ولا مسلكه مسلك الفن القصصي، وليس فيه هوى ذكر الأنساب، ولا مقدرات الزمان والمكان، ولا مشخصات أخر لا غنى للدرس التاريخي والقصّة التخيلية عن إحصائها وتمثيلها».

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد