أولاً: القرآن والحروب التي اندلعت في أول الدعوة الإسلامية
إن أصل الحرب والقتال على العموم أمر جائز في الشرع المقدس، وهناك العديد من القوانين والقواعد الخاصة بالحرب كان الإسلام قد قررها وأمضاها أيضاً، ففي زمان النبي (ص) تواصلت الحروب والمعارك في أكثر من مناسبة بين المسلمين وأعدائهم المشركين.
وقد تعرض المؤرخون إلى أكثر من ثمانين حرباً كانت قد وقعت في تلك الفترة الزمنية من حياته، وقد نزلت كثير من الآيات من القرآن تتعرض إلى هذه الحروب وتفاصيلها....
ومن بين الحروب العديدة التي خاضها النبي محمد المصطفى (ص) في حياته مع المسلمين وكان القرآن قد تعرض لها، هي ثلاث حروب بدر والأحزاب وحنين، وقد ذكرت حرب بدر في قوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). [1].
ووردت حرب الأحزاب في قوله: (وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا). [2]، وجاء ذكر معركة حنين في في قوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ). [3].
ولكن بغض النظر عن ذكر أسماء الحروب ووقائعها في الآيات والسور القرآنية التي تعرضت لذلك إجمالاً وتفصيلاً، مثل البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال والتوبة و…، فإن ما لا نقصده هنا هو البحث في العمق التاريخي للحروب ونفس الفترة الزمنية التي وقعت فيها المعارك في بداية الدعوة، إن ما نرمي إليه هنا فعلاً، وهو الذي يحظى بالأهمية في ما يخصنا هو البحث في هذه المسألة وهي:
أن الحرب التي حدثت في تلك الفترة هل كانت حروباً ومعارك دفاعية؟ أو أن بعضها كان جهاداً ابتدائياً ولم يكن فيها جانب دفاعي؟ وعلى العموم أفي الإسلام جهاد دفاعي فقط أم هناك جهاد ابتدائي قد شرع في الإسلام أيضاً؟ وهنا يطرح سؤال وهو: أساساً كم نوعاً من الجهاد اعتبره وعده القرآن جائزاً؟
ثانياً: التصنيف القرآني للحروب
لقد قسم القرآن بنحو عام الحروب بأصنافها وأنواعها سواء التي وقعت في العصور والفترات الماضية من التاريخ البشري أم الحروب التي ستقع في المستقبل بلحاظ قيمتها واعتبارها على قسمين أساسين هما:
1 حروب الحق العادلة
وهي التي أطلق عليها القرآن الكريم عنوان: الجهاد في سبيل الله أو القتال في سبيل الله.
2 حروب الباطل الظالمة
وهي التي أطلق عليها القرآن عنوان: القتال في سبيل الطاغوت.
مثال ذلك هذه الآية التي ذكرت القسمين كليهما من الحرب، يقول تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا). [4].
إن حرب الحق هي تلك الحرب التي تقوم على أساس القتال في سبيل الله، والحرب الباطلة هي تلك الحرب التي تقوم على أساس القتال في سبيل الشيطان.
وإن أمام الإنسان في الواقع طريقين لا ثالث لهما: أحدهما: عبادة الله سبحانه وطاعته، والآخر: عبادة الشيطان وأتباعه وفي كل عمل يقوم به الإنسان إذا لم يكن من أجل عبادة الله تعالى وطاعته ولم يكن في سبيل الكمال الحقيقي الذي هو القرب والدنو من الحق جل شأنه، فسيكون دون شك عملاً شيطانياً.
ومن الواضح أن هذه الآية لا تدلنا على خصوصيات الحرب ومزاياها ولا تكشف لنا عن طبيعة العدو وهويته لتكون حرباً في سبيل الله، وما هي الأمور التي تتصف بها الحرب الشيطانية والقتال في سبيل الطاغوت، ولكن عند مطالعة الآيات والروايات الأخرى ستتضح وتتجلى هذه المسألة تماماً، إذ وبعد مراجعة جميع أدلة الجهاد في سبيل الله، نجد أنه قتال في مسيرة الكمال الإنساني والبشري وهي حرب تجعل الإنسان والمجتمع قريباً من الله تعالى.
وهذا الكلام وإن كان معلوماً وجلياً من جهة المفهوم، ولكنه غير معلوم من ناحية المصداق، فهناك بعض الأمور ما زالت غامضة من قبيل: ما هي الحرب؟ وضد أي من الأشخاص والمجموعات؟ وفي أي أوضاع وظروف يمكن أن تكون مصدراً لكمال الفرد والمجتمع؟
ثالثاً: المقصود من اصطلاح «في سبيل الله»
تتضمن جملة في سبيل الله معنى ظريفاً جداً، وعلى الرغم من شهرة هذا الاصطلاح، وكثرة استعماله بين المسلمين، ووفرة استخدامه في المصادر الإسلامية والنصوص الدينية كالقرآن والأحاديث، ولكن لم يلتفت الى معناه ويدرك المقصود منه، وهنا يمكن أن نقول:
إن كل فعل يقوم به الإنسان هو مصداق للحركة، وكل حركة لابد من أن تكون لجهة معينة، وهدفاً وغرضاً محدداً، سواء كان ذلك الفعل خارجياً ظاهراً أم كما يعبرون عنه فعلاً جوارحياً، الذي يقوم به المرء عن طريق أعضاء البدن، أم سلوكاً وفعلاً جوانحياً باطنياً، وهو الفعل الذي يتعلق بروح الإنسان وعقله وفكره، ومن هنا يكون ذلك الفعل مستوراً ومخفياً عن لحظ الآخرين ورؤيتهم، مثل ما يدور في عقل الإنسان وروحه من خيال وأفكار.
وهذه الجهة التي تسير إليها الحركة لو كانت على نحو تنتهي إلى كمال الإنسان وسموه، فسيكون ذلك – طبعاً هو الطريق المستقيم، وهو طريق الخير والصلاح وسعادة الإنسان، وسيؤدي إلى الحق والحقيقة، وأما لو كانت جهة الحركة تمضي بالإنسان بعيداً عن كماله الحقيقي، وتقذفه بمنأى عن سمو ذاته، فمن الطبيعي أن يكون الإنسان وهو في هذه الحالة في طريق الشر والفساد، ويسلك سبيل الشقاء والباطل.
من جهة أخرى وانطلاقاً من رؤية الإسلام، فإن الكمال الحقيقي لأي إنسان لا يكون إلا في القرب الكبير من حضرة الله تعالى، وأدنى من ساحته المقدسة، وما يعده الإسلام من حركات وأفعال صحيحة هي تلك السلوكيات والأفعال التي تتوفر فيها جهة الصلاح والخير للإنسان، وهي التي تكون مصداقاً للحق والعدل، وهي الحركات التي تقع وتحصل كلما صار الإنسان أكثر قرباً ودنواً من الكبير المتعال، مقابل ذلك إن كل سلوك أو حركة تبعد الإنسان عن الله وتنأى به عن رحمته يعدها الإسلام باطلة وفاسدة.
وبتعبير آخر: إن الحركات والأفعال التي يعدها الإسلام حقاً، ويعتبرها عدلاً هي تلك الأفعال التي تكون ضمن المسير والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى، وكل حركة وفعل آخر غير داخل في هذا الخط والاتجاه سيكون بحسب القواعد والأصول الإسلامية باطلاً وغير صحيح.
وعليه فلو أردنا الإجابة عن السؤال الآتي وهو: لماذا يطلق الإسلام على الأفعال الإيجابية الحسنة والنشاطات الصحيحة والحقة التي يقوم بها الإنسان عبارة: في سبيل الله؟ علينا أن نقول إنما يكون ذلك لأن الإنسان عندما يقوم بأداء هذه السلوكيات والأفعال يكون قريباً من الله تعالى، وستكون نهايته إليه سبحانه.
وقد استعملت جملة في سبيل الله في القرآن في موارد متعددة، سنشير إلى بعضها:
منها ما جاء في بعض الآيات من وصف تحمل الإنسان العذاب من الأعداء وصبره على أذاهم، وعدت ذلك الأمر موجباً لخيره وسعادته، من قبيل هذه الآية: (لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلَاً إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ). [5].
ووصفت بعض الآيات الأخرى بعض الأفعال بعنوان «في سبيل الله» أيضاً من قبيل الهجرة والجهاد والتضحية بالنفس والشهادة في محاربة الأعداء ومقارعتهم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةَ اللهِ). [6].
وقال سبحانه: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ). [7].
واستعملت بعض الآيات الأخرى عنوان: «في سبيل الله» قيداً للإنفاق وبذل الأموال في سبيل الخير، وذلك مثل قوله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ). [8].
وفي بعض الآيات جاء وصف في سبيل الله للعوز المالي والإملاق أيضاً، كما في الآية: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ). [9].
رابعاً: مفردة «الله» في القرآن
من المناسب جداً بعد أن تعرفنا معنى العبارة القرآنية «في سبيل الله»، ووقفنا عند مفهومها والمراد منه، أن نشير إلى عبارة قرآنية أخرى شبيهة بها وهي عبارة «الله» ونتعرف الفرق بينهما.
... إننا نعتقد أن الأفعال الاختيارية للإنسان، عندما يكون لها قيمة واعتبار إيجابي ومفيد فإنها تتصف بأمرين: الأول: أن يكون الفعل حسناً، أي أن يكون ذلك الفعل بنفسه حسناً جميلاً بغض النظر عن طبيعة قصد فاعله والدواعي التي دفعته للقيام به، ويعبر عن هذا الأمر أيضاً بـ (الحسن الفعلي).
الآخر: أن يكون الباعث والداعي للفعل صحيحاً أيضاً، بمعنى أن قصد الفاعل وهدفه لابد من أن يكون نزيهاً وحسناً، وهو ما يعبر عنه بـ (الحسن الفاعلي)، وتظهر أهمية هذا الأمر خاصة في الأفعال التي يطلق عليها الفقهاء بـ (العبادة).
وعليه إن الفعل الأخلاقي حتى يتصف بالحسن والجمال وحتى تكون له قيمة مفيدة وبعد إيجابي يجب أن يكون بنفسه مجرداً عن غيره حسناً وجميلاً، ولابد أيضاً أن يكون قصد الفاعل وغرضه بعيدًا عن التظاهر والأنانية وخداع الناس وطلب الجاه والسمعة.
وعند بيان هذه المقدمة نقول الآن: إن تعبير في سبيل الله ناظر في الواقع إلى (الحسن الفعلي) والسلوك المفيد والنافع ذاتاً، وأما تعبير «الله»، أو «قربة إلى الله» فهو ناظر إلى (الحسن الفاعلي)، ويدل على أن المرء عندما يهم بالقيام بعمل نافع ومفيد يجب أن تكون دوافعه صحيحة ونزيهة أيضاً.
تجدر الإشارة إلى أن الأهم من بين هذين التعبيرين هو (الحسن الفاعلي)، فإن صحة الباعث والدافع للفعل أو قبحه يمكن أن يجعله في أعلى القيم السامية والاعتبارات الإيجابية، وبالعكس يمكن أن يهبط به إلى أحقر منزلة سلبية وأحقر درجة رخيصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] آل عمران، ۱۲۳.
[2] الأحزاب، ۲۲.
[3] التوبة، ٢٥.
[4] النساء، ٧٦.
[5] التوبة، ۱۲۰.
[6] البقرة، ۲۱۸.
[7] البقرة، ۱۹۰.
[8] البقرة، ٢٦١.
[9] البقرة، ٢٧٣.
السيد عباس نور الدين
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ علي آل محسن
عدنان الحاجي
الشيخ مرتضى الباشا
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ باقر القرشي
الدكتور محمد حسين علي الصغير
الشيخ محمد مصباح يزدي
الشيخ محمد صنقور
حسين حسن آل جامع
الشيخ علي الجشي
ناجي حرابة
جاسم بن محمد بن عساكر
أحمد الماجد
عبد الوهّاب أبو زيد
فريد عبد الله النمر
عبدالله طاهر المعيبد
ياسر آل غريب
زهراء الشوكان
الإمام الهادي: شهيد الغربة والكربة
القدرة العجيبة المنسيّة لصناعة الإنسان
النّفس وتسويتها
ملامح من حياة الإمام علي الهادي (ع)
تصبَّر تكن أكثر سعادة وبأفضل صحة
الإمام علي الهادي (ع) والعطاء العلمي
الفرق بين (يفعلون) و(يعملون) و(يصنعون)
الإمام الهادي في مواجهة الاتجاه الجبري والقدري
الإمام الهادي: وارث خزائن المعارف
تحيّات النبي إلى الباقر عليه السلام