مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
الشيخ محمد جواد مغنية
عن الكاتب :
الشيخ محمد جواد مغنية، ولد عام 1322ﻫ في قرية طير دبّا، إحدى قرى جبل عامل في لبنان، درس أوّلاً في مسقط رأسه ثمّ غادر إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته الحوزوية، وحين عاد إلى وطنه، عُيّن قاضيًا شرعيًّا في بيروت، ثمّ مستشارًا للمحكمة الشرعيّة العليا، فرئيسًا لها بالوكالة. من مؤلّفاته: التفسير الكاشف، فقه الإمام الصادق(ع)، في ظلال نهج البلاغة، الفقه على المذاهب الخمسة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد، الإسلام والعقل، معالم الفلسفة الإسلامية، صفحات لوقت الفراغ، في ظلال الصحيفة السجادية، وسوى ذلك الكثير. تُوفّي في التاسع عشر من المحرّم 1400ﻫ في بيروت، ثمّ نُقل إلى النجف الأشرف، وصلّى على جثمانه المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي، ودُفن في حجرة 17 بالصحن الحيدري.

زينب (والمصائب والأحزان) (1)

شاءت الأقدار أن تلقي بالسّيّدة الحوراء في أحضان المصائب والأحزان منذ الطّفّ وإلى آخر يوم في حياتها... فمن يقف على سيرتها يجد سلسلة من حلقات متّصلة من الآلآم منذ البداية، حتّى النّهاية.

 

وأي إنسان خلت أو تخلو حياته من الهموم والأكدار، حتّى أصحاب السّلطان، والجاه، والثّراء لا منجاة لهم من ضربات الزّمان، وطوارق الحدثان... وقديمًا قيل على لسان الإمام عليّ: «الدّهر يومان: يوم لك، ويوم عليك؛ فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر» «1». ومن الّذي حقّق جميع رغباته، ولم يفقد قريبًا من أقربائه، وعزيزًا من أعزائه.

 

ولكن من غير المألوف والمعروف أن يعيش «إنسان» في خضمٍّ من المحن والأرزاء، كما عاشت السّيّدة زينب الّتي انهالت عليها الشّدائد من كلّ جانب الواحدة تلو الأخرى، حتّى سميّت أمّ المصائب، وأصبحت هذه الكنية علمًا خاصّا بها.

 

فقد شاهدت وفاة جدّها رسول اللّه، وتأثيرها على المسلمين بعامّة، وعلى أمّها وأبيها، وأهل بيتها بخاصّة، قال أمير المؤمنين: «نزل بي من وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ما لم أكن أظن الجبال لو حملته عنوة كانت تنهض به... ورأيت النّاس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح نزل به، قد أذهب الجزع صبره ، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والإفهام، والقول، والأسماع» «2».

 

وطبيعي أن يصيب أهل البيت هذا، وأكثر منه، فإنّ تأثير المصاب بالفقيد، أي فقيد يقاس بقدره وقيمته... وكفى الرّسول عظمة أن يقترن اسمه باسم اللّه، ولا يقبل الإيمان والاعتراف باللّه الواحد الأحد إلّا مع الاعتراف والإيمان برسول اللّه محمّد...

 

هذا، إلى أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله كان قد حدث أهل بيته بكلّ ما يجري عليهم من بعده، وكرّره أكثر من مرّة على مسامعهم تصريحًا وتلويحًا، حتّى ساعة الوفاة كان ينظر إلى وجوههم ويبكي، ولمّا سئل قال: «أبكي لذّرّيتي، وما تصنع بهم شرار أمّتي من بعدي» «3».

 

شاهدت زينب وفاة جدّها الرّسول، وما تركه من آثار، وشاهدت محنة أمّها الزّهراء، وندبها لأبيها في بيت الأحزان، ودخول من دخل إلى خدرها، وانتهاك حرمتها، واغتصاب حقّها، ومنع إرثها، وكسر جنبها، وإسقاط جنينها، وسمعتها، وهي تنادي فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث... وكلّنا يعلم علاقة البنت بالأمّ، وتطلعها إليها، وتأثرها بها تلقائيًّا وبدون شعور.

 

وشاهدت قتل أبيها أمير المؤمنين، وأثر الضّربة في رأسه، وسريان السّم في جسده الشّريف، ودموعه الطّاهرة الزّكية تفيض على خدّيه، وهو يقلب طرفه بالنّظر إليها، وإلى أخويها الحسنين.

 

وشاهدت أخاها الحسن أصفر اللّون يجود بنفسه، ويلفظ كبده قطعًا من أثر السّم، ورأت عائشة تمنع من دفنه مع جدّه، وتركب بغلة، وتصيح، واللّه لا يدفن الحسن هنا أبدًا.

 

أمّا ما شاهدته في كربلاء، وحين مسراها إلى الكوفة، والشّام مع العليل، والنّساء، والأطفال فيفوق الوصف، وقد وضعت فيه كتب مستقلّة.

 

هكذا كانت حياة السّيّدة، وبيئتها من يومها الأوّل إلى آخر يوم، حياة مشبّعة بالأحزان، متخمة بالآلام لا تجد منها مفرًّا، ولا لها مخرجًا.

 

وبعد هذه الإشارة نقف قليلا لنرى كيف قابلت السّيّدة هذه الصّدمة والأحداث الجسام: هل أصابها ما يصيب النّساء في مثل هذه الحال من الاضطراب واختلال الأعصاب؟... هل هيمنت عليها العاطفة العمياء الّتي لا يبقى معها أثر لعقل ولا دين؟... وبالتّالي، هل خرجت عن حدود الاتزان والاحتشام؟...

 

حاشا بنت النّبيّ، وفاطمة، وعليّ، وأخت الحسنين، وحفيدة أبي طالب أن تنهزم أمام النّكبات، وتستسلم للضّربات... حاشا النّفس الكبيرة أن تتمكن منها العواطف، أو تزعزعها العواصف... فلقد تحولت تلك المحن، والمصائب بكاملها إلى عقل، وصبر، وثقة باللّه، وكشفت كلّ نازلة نزلت بها عن معنى من أسمى معاني الكمال، والجلال، وعن سرّ من أسرار الإيمان النّبويّ المحمّديّ، أنّ اعتصامها باللّه، وإيمانها به تمامًا كإيمان جدّها رسول اللّه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر، نهج البلاغة: الحكمة «394».

(2) انظر، مناقب آل أبي طالب: 1 / 233، الخصال للشّيخ الصّدوق: 371، شرح الأخبار: 1 / 346، الاختصاص للشّيخ المفيد: 170.

(3) انظر، أمالي الشّيخ الطّوسي: 188 ح 18.

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد