مسألة "الموت" وطريقة التعامل معه، من أبرز العناصر التي تدخل في تكوين ملحمة الطف في يوم عاشوراء، وعاشوراء حدث متميّز من بين الأحداث الكبيرة في التاريخ من هذه الزاوية؛ فقد أعلن الحسين (عليه السلام) عند مغادرته الحجاز إلى العراق: أنَّه سوف يلقى مصرعه في هذه الرحلة: (وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأنِّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلاة، بين النواويس وكربلاء) (1).
ونعى نفسه إلى الناس، وطلب منهم أن يبذلوا مهجهم في هذا السبيل، ويوطِّنوا معه أنفسهم للقاء الله: (من كان باذلاً فينا مهجته، مُوطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا...) (2).
وبدأ خطابه العجيب هذا، بتقديم صورة زاهية جميلة للموت، تمهيداً لدعوتهم إلى أن يبذلوا له مهجهم، فقال (عليه السلام): (خطّ الموت على ولد آدم، مخطّ القلادة على جِيد الفتاة) (3).
وعلى امتداد الطريق إلى كربلاء، كان الحسين (عليه السلام) يصارح الناس ويصارح أصحابه أنَّهم سائرون إلى الموت الذي لا بدّ منه، ولم يكن يشك في ذلك أصحاب الحسين (عليه السلام). إنَّهم كانوا على يقين من هذا الأمر ما بعده يقين.
وكان عُذر مَن يتخلّف عن نصرة الحسين (عليه السلام) إلى الحسين: إنّ نفسه لا تطيب بالموت، والشواهد على ذلك كثيرة في مسيرة الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء، وهذه هي الصفة المميّزة لحادثة الطف.
فلسنا نجد ـ أو قلَّما نجد ـ في قادة الحركات والثورات مَن يدعو الناس الى الموت، إنَّهم يدعون الناس إلى الحركة والثورة، ويطلبون منهم أن يكونوا على استعداد لتقديم دمائهم للثورة كلَّما اقتضي الأمر.
أما الحسين (عليه السلام)، فله شأن آخر. إنَّه لا يطلب في رحلته هذه فتحاً عسكرياً بالمعنى الذي يتصوّره الناس، وإنَّما يريد أن يقدم على تضحية مأساوية فريدة في التاريخ؛ يهزّ بها ضمير الأمَّة.
لقد وجد الحسين (عليه السلام) أنَّ بني أمية تمكّنوا من ترويض إرادة الناس، وتطويعهم بعامل الإرهاب والترغيب وسلب إرادتهم. وفي هذا الجوّ، حاول بنو أمية أن يستعيدوا قيم ومواقع الجاهلية في المجتمع الإسلامي الجديد، دون أن يجدوا مقاومة تُذكر من ناحية الأمَّة، فكان لا بدّ من هزّة قوية لنفوس الناس، تعيد إليهم إرادتهم السليبة. ولا تتم هذه الهزّة القوية إلاَّ بتضحية مأساوية فريدة في التاريخ، فأعدَّ الحسين (عليه السلام) أهل بيته وأصحابه لمثل هذا المشهد المأساوي.
وانطلاقاً من هذا الفهم؛ قلت: إنّ هذه الصفة، هي الصفة المُمِيِّزة لحادثة الطف من الأحداث الأُخرى في التاريخ.
ومن أعظم الخيانة للتاريخ، أن نُجرِّد "عاشوراء" من هذه الصفة المميّزة لها. فلا يبقى من عاشوراء، إذا جرّدناها عن "الاستماتة" وطلب الشهادة، إلاَّ ثورة على النظام الأموي غير متكافئة مع قوّة الظلم، فلم تنجح في تحقيق أهدافها، كما كان يتوقّع ذلك الذين كانوا ينصحون الحسين (عليه السلام) أن لا يخرج إلى العراق. ولم يكن الحسين (عليه السلام) يتّهم أولئك في صدقهم في النصح، لكن الإمام (عليه السلام) كان يرى ما لا يرون، ويُريد ما لا يعرفون.
كيف يواجه الناس الموت؟
للموت شأن كبير في تنظيم حياة الناس، والناس أمام هذه الظاهرة الطبيعية من سنن الله، مثال القهرية في الحياة، طائفتان:
طائفة ـ وهي الأكثرية الساحقة من الناس ـ يجزعون عن مواجهة الموت ويهربون منه.
وطائفة ـ وهي الأقلِّيَّة من الناس ـ يتحدّون الموت، ويشتاقون إليه ويستقبلونه.
ولهذه الحالات: "الجزع من الموت / تحدِّي الموت" شأن كبير في تنظيم حياة الناس وتقرير مصيرهم. الأمَّة التي تجزع من الموت، لا تحوج الطغاة والجبابرة إلى جهد كبير لتطويقها وترويضها، وتذليلها وتعبيدها لإرادتهم وسلطانهم. فتتحول حياتها إلى نوع من التبعية والانقياد للطاغية والجبابرة والطغاة، وبالتدريج يفقدون الوعي والفطرة ومقوّمات الحياة الكريمة، وهذه صورة من الحياة.
والأمَّة التي تملك القدرة على تحدّي الموت ولا تجزع منه، وتملك القدرة على تجاوز الموت، لا يمكن ترويضها وتذليلها لإرادة الطغاة والجبابرة، ولا يمكن مصادرة إرادتها ومقاومتها، وهذه صورة ثانية من الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ بحار الأنوار : 44 / 367 .
2 ـ اللهوف : 38 .
3 ـ بحار الأنوار : 44 / 366 .
الشيخ محمد مهدي الآصفي
الشيخ عبد الله الجوادي الآملي
عدنان الحاجي
الشيخ محمد جواد مغنية
الشيخ فوزي آل سيف
الشيخ شفيق جرادي
السيد محمد حسين الطهراني
الشيخ جعفر السبحاني
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مصباح يزدي
حسين آل سهوان
أحمد الرويعي
أسمهان آل تراب
حسين حسن آل جامع
أحمد الماجد
فريد عبد الله النمر
علي النمر
حبيب المعاتيق
زهراء الشوكان
الشيخ علي الجشي