بُنيَت بعثة الأنبياء (عليهم السلام) على أساس الهداية إلى الحقّ والانتصار له، فكان عليهم أن يتجهَّزوا بالحقّ في دعوتهم، وينخلعوا عن الباطل، ويتّقوا شبكات الضلال، سواء أوافَق ذلك رضا الناس أو سخطهم، واستعقَب طَوعهم أو كرههم. وَقَد وَرد عنه تعالى أشدَّ النهي في ذلك لأنبيائه (عليهم السلام) وأبلغ التحذير -حتّى عن اتّباع الباطل قَولاً وفِعلاً بِغَرَض نُصرة الحقّ- فالباطل باطل؛ سواء أوَقَعَ في طريق الحقّ أم لم يَقَع، فالحقّ الذي يَهدي إليه الباطل ويُنتجه ليس بحقٍّ مِن جهاته جميعها، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدا﴾[1] و﴿وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡٔا قَلِيلًا - إِذا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرا﴾[2]؛ فَلا مساهلة ولا مُلابسة ولا مُداهنة في حقّ، ولا حُرمة لِباطل[3].
إنّ الهدف الأساس في الحياة هو رضا الله تعالى، وقد يتعارض هذا الهدف مع نيل رضا الناس في بعض الحالات، فلا بدّ من العمل على تحقيق الهدف الأساس، والسعي لنيله وكسبه، إذ إنّه:
1. سلوك الأنبياء (عليهم السلام): قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنۡ حَرَج فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُۥۖ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۚ وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرا مَّقۡدُورًا﴾[4]، وقال أيضاً عن لِسان نوح (عليه السلام) عندما عَرَض عليه أهل الدنيا استبدال أصحابه بهم: ﴿وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۚ﴾[5].
2. خير الدنيا والآخرة: كَتَب رجل إلى الحسين بن عليّ (عليهما السلام): يا سيّدي، أخبِرني بخير الدنيا والآخرة. فَكَتب (عليه السلام) إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّه مَن طلبَ رضا الله بسخط الناس كَفاه الله أمور الناس، ومَن طلب رضا الناس بِسَخط الله وكَلَه الله إلى الناس، والسلام»[6].
3. الرحمة الإلهيّة: وَعد بها القرآن الكريم مَن يُعرض عن الناس في سبيل الله؛ قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تُعۡرِضَنَّ عَنۡهُمُ ٱبۡتِغَآءَ رَحۡمَة مِّن رَّبِّكَ تَرۡجُوهَا فَقُل لَّهُمۡ قَوۡلا مَّيۡسُورا﴾[7].
رضا الناس غايةٌ لا تُدرك
إنّ رضا الناس غايةٌ لا تُدرك وسبيلٌ لا يُنجي، بل أكّد القرآن الكريم في أكثر مِن موقع أنّ أكثر الناس يُضلّون عن سبيل الله؛ عن علقمة قال: فَقُلتُ للصادق (عليه السلام): يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إنّ الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور، وقد ضاقَت بذلك صدورنا. فقال (عليه السلام): «يا علقمة، إنّ رضا الناس لا يُملك، وألسنتهم لا تُضبط، فكيف تسلمون ممّا لم يَسلم منه أنبياء الله ورُسُله وحُجَجه (عليهم السلام)؟!»[8]. فالرهان على رضا الناس -مِن أيٍّ شخصٍ كان، وَمَهما عَلَتْ مكانته- رهانٌ خاسر.
آثار تقديم رضا الناس على رضا الله
إنّ من يطلب رضا الله تعالى، ويُؤثِر مراد خالقه على مراد الناس، سيرى تأييد الله له، وسيكفيه أمور الناس، كما أنّ لتقديم رضا الناس على رضاه سبحانه أثراً بالغاً على دين المرء وعواقب الأمور، نذكر منها:
1. الخروج مِن الدين: عن الإمام الباقر(عليه السلام): «لا دينَ لِمَن دانَ بِطاعة مَن عَصى الله، ولا دينَ لِمَن دانَ بِفريَة باطل على الله، ولا دينَ لِمَن دانَ بِجُحود شيء مِن آيات الله»[9]. وعن السكونيّ عن الإمام الصادق عن أبيه (عليهما السلام)، عن جابر بن عبد الله [الأنصاريّ] قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «مَن أرضى سلطاناً بِسَخط الله، خَرَجَ مِن دين الله»[10].
2. النتائج المعاكسة: عن الإمام الباقر(عليه السلام): «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مَن طلبَ مَرضاة الناس بِما يسخط الله كان حَامدُه مِن الناس ذامّاً، ومَن آثرَ طاعة الله بِغَضب الناس كفاهُ الله عداوة كلّ عَدوّ وحَسد كلّ حاسد وبَغي كلّ باغٍ، وكان الله عزّ وَجلّ له ناصراً وظهيراً»[11]. وَعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كتبَ رجل إلى الحسين(عليه السلام): عِظْني بحرفَيْن. فَكتب إليه: مَن حاول أمراً بمعصية الله، كان أفوَت لِما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر»[12]؛ أي إنّه لن يفوز بما كان يَرجوه، ولن يَسلم ممّا كان يفرّ منه. وَقال تعالى عن لِسان النبيّ يوسف(عليه السلام): ﴿قَالَ رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِۖ﴾[13]، ففضّل السجن على المعصية، بل عَدَّه مُحبَّباً ما دام فيه لله رضا، ولم يمنعه السجن من بلوغ ما قدّره الله له مِن السلطة والمقام الرفيع لَمّا عَصَم نفسه عن المعصية.
3. سوء العاقبة: يعدّد الإمام الصادق(عليه السلام) بعض أصناف الضالّين المنحرفين المتّبعين لأهوائهم فيقول: «جاهلٌ متردٍّ مُعانِقٌ لهواه، وعابدٌ متقوٍّ كلّما ازداد عبادةً ازداد كِبراً، وعالمٌ يريد أن يوطَأ عقباه ويحبّ مَحمدة الناس»[14]؛ أي عالمٌ يعمل على كَسْب مودّة الناس على حساب رضا ربّه. وعن الإمام الباقر(عليه السلام): «مَن طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يُماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فليتبوَّأ مقعدَه من النار»[15].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الكهف، الآية 51.
[2] سورة الإسراء، الآيتان 74 - 75.
[3] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1417هـ، ط5، ج6، ص299. الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، سنن النبيّ (صلى الله عليه وآله) (مع ملحقات)، تحقيق وإلحاق الشيخ محمّد هادي الفقهيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1419ه، لا.ط، ص85.
[4] سورة الأحزاب، الآية 38.
[5] سورة هود، الآية 29.
[6] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، إيران - قمّ، 1417ه، ط1، ص268.
[7] سورة الإسراء، الآية 28.
[8] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص164.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص373.
[10] المصدر نفسه.
[11] المصدر نفسه، ج2، ص372.
[12] المصدر نفسه، ج2، ص373.
[13] سورة يوسف، الآية 33.
[14] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، إيران - قمّ، 1403هـ - 1362ش، لا.ط، ص262.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج1، ص47.
الشيخ محمد جواد مغنية
حيدر حب الله
الشيخ محمد صنقور
الشيخ محمد مصباح يزدي
السيد محمد حسين الطهراني
محمود حيدر
السيد محمد حسين الطبطبائي
عدنان الحاجي
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الشيخ علي رضا بناهيان
حسين حسن آل جامع
فريد عبد الله النمر
أحمد الرويعي
حبيب المعاتيق
عبدالله طاهر المعيبد
حسين آل سهوان
أسمهان آل تراب
أحمد الماجد
علي النمر
زهراء الشوكان
وما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ
إيثار رضا الله
النسخ في القرآن إطلالة على آية التبديل (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) (2)
الحسن المجتبى: نعش بسبعين نبلة
ظروف تشييع جنازة الإمام الحسن (ع)
دور الصالحين التكويني والبركات التي تنزل بفضل وجودهم
عولمة النّهضة الحسينيّة، جديد الأستاذ جاسم المشرّف
المقارنة بين الإسلام والأديان السابقة في رتب الكمال
الذكاء الاصطناعي في عين الحكمة الفلسفية
أسرار مآتمنا المختصّة بأهل البيت (عليهم السلام)