مقالات

الصّلاة تعالج الهلع

الشيخ علي الكوراني

 

الهلع هو فقدان الثبات في الشخصية وسرعة التغير بالمؤثرات المختلفة التي تتوارد على النفس. لا أقصد بذلك التغير من الرضا إلى الغضب ومن الحزن إلى الفرح ومن الهدوء إلى الثورة، فإن ذلك من لوازم بشرية الإنسان وإحساسه بما في نفسه وحياته، فالإنسان الذي يتأثر بمؤثرات الحياة المختلفة دون أن يخرجه ذلك عن منهج الإسلام في فهم الحياة والاحساس بها، ليس إنسانًا هلوعًا، أما الإنسان الذي يتناقض في مواقفه ومشاعره مع منهج الإسلام في الحياة فهو الإنسان الهلوع.

 

فالذي يرى في الوفاء قيمة إنسانية ثم يرتكب الخيانة لأن فيها مكسبًا عاجلاً، هو الإنسان الهلوع والذي يؤمن بأن تقييم الناس يكون بمحتواهم النفسي من الاستقامة ثم تأخذه المؤثرات المظهرية فيقيمهم بأموالهم ومناصبهم هو إنسان هلوع.

 

والذي تتغير شخصيته ومفاهيمه بسبب الفقر والغنى والمرض والصحة والحب والبغض، وهذه البيئة أو تلك هو الإنسان الهلوع، وما أكثر الأمثلة وألوان الهلع في الناس وحياتهم.

 

والهلع سمة أصيلة من سمات أنفسنا، يتصل وجودها بتكوين الأنفس، يقول الله عز وجل (إن الإنسان خلق هلوعًا) الضعف فيه قاعدة والثبات استثناء، ولم يكن بدّ من هذا التكوين لأن جهاز النفس يجب أن يكون جهازًا حيويًّا مرهف الالتقاط، وفي ظرف تكثر فيه جهات الإرسال وتتنوع الموجات يحدث أن يمتلئ الجهاز بالموجات الطولية والعرضية السالبة والموجبة المتواردة عليه، يخرج أحدنا إلى عمله فيسعده التوفيق بصديق حميم طالما اشتاق إلى رؤيته فيعتنقان بدموع الفرح وذكريات الأخوة، فتمتلئ نفسه حبًّا للحياة ومعانيها وأشيائها حتى إذا زحمه العمل وأزعجه أحد الأشياء أو الناس امتلأت نفسه نفرة من الناس وغيظًا، ثم إذا تسلم مرتبه الشهري عاد الرضا إلى نفسه، فإذا رجع إلى منزله ووجد طفلته قد فاجأها المرض عادت الحياة سوداء في عينيه، فإذا غادرتها الحمى في وقت لاحق من الليل وارتاحت إلى نوم رفيق، عادت نفسه مزيجًا من الرضا والغضب والألم والراحة!.

 

في يوم واحد تتوارد على نفس أحدنا ألوان الشر والخير فما بالك بحياتنا الطويلة، وهي مسيرة بين الأشواك والزهور في سهل الدرب وحزنه ونسيم عليل وسموم لافح. نعماء وضراء ومسرات وآلام.

 

يبدو أن الهلع في الشخصية أمر لا مفر منه ما دام ينبع من إرهاف أنفسنا واختلاف المؤثرات في حياتنا. لكن الإسلام يرى أن باستطاعة الإنسان أن يتخلص من الهلع، بل ويرى في الهلع تناقضًا في الشخصية وتمزقًا ضارًّا..

 

فأن تعيش في الحياة وتمارس خيرها وشرها، لا يمنع أن تكون نفسك ثابتة النظرة موحدة المشاعر متعالية على ما ينتابها من المؤثرات. ومفتاح ذلك في رأي الإسلام أن تعرف المفهوم الواقعي للخير والشر: إن ما تراه يملأ حياة الناس من (خير وشر) ليس هو بالحقيقة خيرًا ولا شرًّا، فلا الفقر ولا المرض ولا الآلام والنكبات والموت بشر ولا خير، ولا الغنى والرفاه ولا الجاه العريض والقوة الواسعة بخير ولا شر، إنها جميعًا عناصر أولية وعجائن بيديك تجعلها خيرًا أو شرًّا، يقول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ - وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ (15 - 17 الفجر).

 

كلا فلا هو التكريم والخير في النعماء، ولا هي الإهانة والشر في الضراء إنما هما صحيفتان مقدمتان لك تملأ كلاًّ منهما بما شئت فقد تكسب بثروتك شرًّا وقد تكسب خيرًا، وقد تكسب بفقرك خيرًا وقد تكسب شرًّا، والحاكم والمحكوم والقوي والضعيف والجميل والدميم والذكي والغبي والمشهور والمغمور كل منهم قد يكسب بما هو فيه خيرًا وقد يكسب شرًّا، لأنهم جميعًا يملكون عجائن قابلة للتحويل إلى الخير وإلى الشر وبدرجات واحدة من القابلية.

 

هذا هو التقييم الإسلامي لأشياء الحياة وللمؤثرات الناتجة عنها: مواد خام من نوع واحد لا بالخير ولا بالشر وإن تراءت لأعيننا خيرًا وشرًّا. ومن ثم وجب في نظر الإسلام أن تمس هذه المؤثرات سطح النفس مساسًا دون أن تنفذ إلى عمقها، وأن يكون المنبع لمواقف النفس وأحاسيسها الخير الحقيقي لا المظهري: رضا الله تعالى ورضاه وحده.. رضا الله الذي هو تحويل المادة الخام إلى خير، تحويل الابتلاء إلى نجاح، فبهذا تطمئن النفس إلى الخير الحقيقي وتتخلص من الهلوع صعودًا وهبوطًا مع ما يتراءى لها من خير وشر: عن الإمام الصادق (ع) قال: "عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عز وجل له قضاء إلا كان خيرًا له، إن قرض بالمقاريض كان خيرًا له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيرًا له". (الكافي ج 2 ص 62).

 

إنه الخير المطلق المضمون من مصدره، الموصول في منبعه، تتنعم فيه النفس المؤمنة وهي تمسي بين الأشواك والورود وتقطع الحياة بنعمائها وضرائها، دون أن تجزع من ضراء أو تطغي في نعماء، دون أن تخضع في مواقفها وأحاسيسها لمؤثرات الخير والشر الظاهريين.

 

وكذلك الإيمان يتعالى بالنفس عن الهلع بمؤثرات الحياة ويهبها الطمأنينة في كل حال، يروى أنه عندما أوثق البابليون نبي الله إبراهيم (ع) ووضعوه في المنجنيق ليلقوا به في نارهم المضطرمة، أتاه جبريل (ع) فقال له: ألك حاجة؟ فأجابه (ع) باطمئنان: أما إليك يا أخي فلا! ويخرج الرسول صلى الله عليه وآله من بلده مكة مهاجرًا برسالته بعد أن أجمع المكيون على عدائه وقتله فلا تنفذ إلى نفسه الشريفة ذرة من الحزن أو الجزع، ثم يدخل مكة فاتحًا في جيش من جند الله فلا تنفذ إلى نفسه الشريفة ذرة من زهو الانتصار الشخصي بل يدخل خاشعًا ساجدًا لله على قربوس جواده! وتحل النكبات بالمؤمنين عبر التاريخ فلا يرون فيها إلا رضوان الله، ويقطعون الحياة بحلوها ومرارتها فيرونها حلوة كلها برضوان الله. إن الشخصية المؤمنة هي الاستثناء الوحيد من الهلع المرير الذي يعصف بالناس من حولك، فمن أين تملك يا ترى هذه الوحدة المتينة الجميلة في الموقف والإحساس، وتنتصر بها على سمة الهلع العميقة؟

 

يحدد القرآن الكريم ثماني صفات لهذه الشخصية، الصفة الأولى والأخيرة منها تتصل بالصلاة ودورها في معالجة الهلع: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا -  وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا - إِلَّا الْمُصَلِّينَ -  الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ - وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ - لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ - وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ - وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ - إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ - وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ - أُولَٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴾ (19_35 المعارج).

 

والمقصود بالدوام على الصلاة في الفقرة الأولى الدوام على النوافل، وبالمحافظة على الصلوات في الفقرة الثامنة المحافظة على الفرائض، وبهذا يكون المعنى، أن مداومة الإنسان على صلاة النافلة ومحافظته على صلاة الفريضة هما عاملان من عوامل التخلص من الهلع وكسب الاطمئنان والوحدة في الشخصية.

 

إن الإيمان بالمفهوم الواقعي للخير والشر إنما يمثل الجانب النظري من تماسك الشخصية ولذا قلنا إنه مفتاح الانتصار على الهلع في نظر الإسلام، أما الجانب التطبيقي فهو تحويل هذا المفهوم إلى قرارة في النفس ورؤية يومية فيها وأي شيء ينهض بذلك غير الصلاة؟

 

في أيامنا الطويلة التي نقطعها بين مؤثرات الحياة وضغوطها على أنفسنا وعصفها برؤيتنا ومشاعرنا لا نجد في الحياة دوحة تعيد إلينا اطمئناننا وبصيرتنا كدوحة المثول بين يدي الله والاغتراف من معينه والاعتصام به، الدوحة الظليلة التي تدخلها متعبًا من الأثقال مشوشًا من لبس الهوى واعوجاج الناس، وما أن تستظل بركعتين منها حتى تنزاح عنك الأتعاب وينكشف عن قلبك الهوى، وتستقيم لك البصيرة، فتعود جديدًا لحياتك مليئًا بالحياة.

 

انظر إلى سرائك وضرائك، إلى كل ما يملأ نفسك ويعترض أيامك من ثمرات الحياة من تعب وارتياح وفقدان ووجدان ودموع وبسمات وآلام كالجبال، كيف إذا مزجتها بالصلاة فيها البصيرة وأنارت لك الجادة وأساغت لك مرارة الحنظل وعطرت لك هناءة النعيم؟!

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد