قرآنيات

هل للقرآن مصادر (2)

 

الشيخ محمد هادي معرفة ..

شرائع إبراهيميّة منحدِرة عن أصل واحد

نحن المسلمون نعتقد في الشرائع الإلهيّة أجمع أنّها مُنحدِرة عن أصلٍ واحد ، ومُنبعِثة من مَنهل عَذبٍ فارد ، تهدف جميعاً إلى كلمة التّوحيد وتوحّيد الكلمة ، والإخلاص في العمل الصّالح والتحلّي بمكارم الأخلاق ، من غير اختلافٍ في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة . ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ... ) .

إذنْ ، فالدِّين واحد والشّريعة واحدة ، والأحكام والتكاليف تهدف إلى غرضٍ واحد وهو كمال الإنسان ، ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ) ، يعني : أنّ الدِّين كلّه ـ من آدم فإلى الخاتم ـ هو الإسلام أي التسلّيم للّه والإخلاص في عبادته محضاً . ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) .

 الإسلام هو الدّين الشّامل ، فمَن حاد عنه فقد حاد عن الجادّة الوسطى ، وضلّ الطريق في نهاية المسير، وهكذا تأدّب المسلمون بالإيمان بجميع الأنبياء من غير ما فارق : ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) .

وهذا منطق القرآن يدعو إلى كلمة التّوحيد وتوحيد الكلمة وأنّ لا تفرقة بين الأديان مادام التّسليم للّه ربّ العالمين ؛ وبذلك يكون الاهتداء والاتحاد ، وفي غيره الضّلال والشّقاق ، ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ) .

وفي ذلك ردّ وتشنّيع بشأن اليهود والنصارى ، أولئك الّذين يَدعُون إلى الحياد والانحياز ( وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ) ، أي قالت اليهود كونوا منحازين على اليهوديّة لا غيرها حتى تهتدوا ! وقالت النصارى كونوا حياداً على النّصرانيّة لا غيرها حتى تهتدوا !

والقرآن يردّ عليهم جميعاً ، ويدعو إلى الالتفاف حول الحنيفيّة الإبراهيميّة : ( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) .

نعم ، صِبغة اللّه شاملة وكافلة للإسعاد بالبشريّة جمعاء ، الأمر الذي يعتنقه المسلمون أجمع ، والحمد للّه.

 

وحدة المنشأ هو السّبب للتّوافق على المنهج

وبعد ، فإنّ ائتلاف الأديان السماويّة واتّحاد كلمتها ، لابدّ أنْ يكون عن سببٍ معقول ، وهذا يحتمل أحد وجوهٍ ثلاثة :

1 ـ إمّا لوحدة المنشأ ؛ حيثُ الجميع منبعث مِن أصلٍ واحد ، فكان التّشابه في الفروع المتصاعدة طبيعيّاً .

2 ـ أو لأنّ البعض مُتّخذٌ من البعض ، فكان التّشاكل نتيجة ذاك التّبادل يداً بيد .

3 ـ أو جاء التّماثل عن مصادفةٍ اتفاقيّة وليس عن علّةٍ حكيمة .

ولا شكّ أنّ الأخير مرفوض بعد مُضادّة الصّدفة مع الحِكمة السّاطية في عالم التدبّير.

بقي الوجهان الأوّلان ، فلنتساءل القوم : ما بالهم تغافلوا عن الوجه الأَوّل الرّصين ، وتواكبوا جميعاً على الوجه الهجين؟! إنّ هذا لشيءٌ مُريب !

هذا ، والشّواهد متضافرة ، تدعم الشقّة الأُولى لتهدم الأُخرى من أساس :

أوّلاً : صراحة القرآن نفسه بأنّه مُوحى إلى نبيّ الإسلام وحياً مباشريّاً ، نزل عليه ليكون للعالمين نذيراً ، فكيف الاستشهاد بالقرآن لإثبات خلافه ؟! إنّ هذا إلاّ تناقضٌ في الفهم ، واجتهاد في مقابلة النصّ الصريح !

ثانياً : معارف فخيمة قدّمها القرآن إلى البشريّة ، بحثاً وراء فلسفة الوجود ومعرفة الإنسان ذاته ، لم يَكد يدانيها أيّة فكرة عن الحياة كانت البشريّة قد وصل إليها لحدّ ذاك العهد ، فكيف بالهزائل الممسوخة الّتي شُحنت بها كُتب العهدَينِ ؟!

ثالثاً : تعاليم راقية عرضها القرآن لا تتجانس مع ضآلة الأساطير الـمُسطَّرة في كتب العهدَينِ ، وهل يكون ذاك الرفيع مستقىً من هذا الوضيع ؟!

 

القرآن يشهد بأنّه مُوحى

وأمّا إنْ كنّا نستنطق القرآن ، فإنّه يشهد بكونه مُوحى إلى نبيّ الإسلام مُحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) ، كما أُوحي إلى النبيّين من قبله : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) .

( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .

والآيات بهذا الشأن كثيرة ناطقة صريحاً بكون القرآن إلى نبيّ الإسلام وحياً مباشريّاً ؛ لينذر قومه ومَن بلغ كافّة .

أمّا أنّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) تلقّاه ( التقطه ) من كُتب السالفِينَ وتعلّمه من علماء بني إسرائيل فهذا شيءٌ غريب، يأباه نسج القرآن الحكيم .

 

القرآن في زُبُر الأوّلين

وأمّا ما تذرّع به صاحبنا الأسقف درّة ، فملامح الوهن عليّه بادية بوضوح :

قوله تعالى : ( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى )‏ .

هذا إشارة إلى نصائح تقدّمت الآية ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ، وذلك تأكيدٌ على أنّ ما جاء به مُحمّد ( صلّى اللّه عليه وآله ) ، لم يكن بِدعاً ممّا جاء به سائر الرسل ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ) ، فليس الّذي جاء به نبيّ الإسلام جديداً لا سابقة له في رسالات اللّه ، الأمر الّذي يستدعيه طبيعة وحي السماء العامّ وفي كلّ الأدوار ، مِن آدم فإلى الخاتم ، فإنّ شريعة اللّه واحدة ، لا يختلف بعضها عن بعض ، فالإشارة راجعة إلى محتويات الكتاب ، توالى نزولها حسب توالي بعثة الأنبياء ، فالنّصائح والإرشادات تكرّرت مع تكرّر الأجيال ، هذا ما تعنيه الآية لا ما زعمه صاحبنا الأسقف !

وهكذا قوله تعالى : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى )‏ .

يعود الضمير إلى مَن وقف في وجه الدّعوة مُستهزِئاً ، بأنْ سوف يتحمّل آثام الآخرين ، إنْ لم يؤمنوا بهذا الحديث ، فيردّ عليهم القرآن : ألم يبلغهم أنّ كلّ إنسان سوف يُكافىء حسب عمله ، ولا تزرُ وازرةٌ وِزر أُخرى ؟ فإنْ لم يَعيروا القرآن اهتماماً فليَعيروا اهتمامهم لما جاء في الصُحُف الأُولى ، وَهلاّ بلغهم ذلك وقد شاع وذاع خبره منذ حين ؟! ، وهكذا سائر الآيات تَروم هذا المعنى لا غير !

( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ  )

وآية أُخرى على صدق الدعوة المُحمّديّة : أنّ الراسخين في العلم من أهل الكتاب ، يشهدون بصدقها ممّا عرفوا من الحقّ :

( لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ( أي من أهل الكتاب ) وَالْمُؤْمِنُونَ ( أي من أهل الإسلام ) يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك ) .

( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ، وهؤلاء هم القساوسة والرّهبان الّذين لا يستكبرون ؛ ومِن ثَمَّ فهم خاضعون للحقّ أين وجدوه ، وبالفعل فقد وجدوه في حظيرة الإسلام .

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ( أيّها الكافرون بالقرآن ) وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( ممّن آمن برسالة الإسلام ) عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ  وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) .

 الضمير في قوله ( على مثله ) يعود إلى القرآن ، يعني : أنّ مِنْ علماء بني إسرائيل مَن يشهد بأنّ تعاليم القرآن تماماً مثل تعاليم التّوراة الّتي أنزلها اللّه على موسى ؛ ولذا آمن به لِما قد لَمس فيه من الحقّ المتطابق مع شريعة اللّه في الغابرين .

وكثير من علماء أهل الكتاب آمنوا بصدق رسالة الإسلام فور بُلوغ الدعوة إليّهم ؛ حيث وجدوا ضالّتهم المنشودة في القرآن فآمنوا به ، فكانت شهادة عمليّة إلى جنب تصرّيحهم بذلك علناً على الملأ من بني إسرائيل.

وهذا هو معنى شهادة علماء بني إسرائيل بصدق الدعوة ، حيث وجدوها متطابقة مع معايير الحقّ الّذي عندهم ، لا ما حسبه صاحبنا الأسقف بعد أربعة عشر قَرناً أنّه مقتبسٌ من كتبهم ومُتلقّى من أفواههم هم !! الأمر الّذي لم يقله أولئك الأنجاب وقد أنصفوا الحقّ الصريح ! ( وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ) .

وهذه المعرفة ناشئة عن لمس الحقيقة في الدعوة ذاتها ، وِفقاً لمعايير وافتهم على أيدي الرُسل من قبلُ ، وقد لمسها أمثال صاحبنا الأُسقف اليوم أيضاً ولكن ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) كالذين من قبلهم ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ممّن حاول إخفاء الحقيقة ـ قديماً وحديثاً ـ فضلّوا وأضلّوا وما كانوا مُهتدين .

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة