مقالات

الإمام الحسين.. نور بلا حدود (2)

 

 أنطوان بارا
• المسيح.. في كربلاء
أيُّها القاتلون ـ جهلاً ـ حسيناً               أبشِـروا بالعـذابِ والتنكيـلِ
قد لُعِنتُم على لسـان ابـن دا                 ودَ وموسى وصاحبِ الإنجيلِ
لقد لعنَ المسيحُ قاتلي الحسين وأمر بني إسرائيل بلعنهم، قائلاً: « مَن أدرك أيّامَه فليُقاتِلْ معه، فإنّه ( أي المقاتل مع الحسين ) كالشهيد مع الأنبياء مُقْبلاً غير مُدْبِر، وكأنّي أنظر إلى بقعته، وما مِن نبيٍّ إلاّ وزارها وقال: إنّكِ لَبقعةٌ كثيرة الخير، فيكِ يُدفَن القمرُ الزاهر »(10).
في هذا النصّ ثلاثُ نقاطٍ ذات دِلالةٍ وأهميّة:
1 ـ لعنُ المسيح لقاتلي الحسين، وأمرُه لبني إسرائيل بلعنهم.
2 ـ الحثّ على المقاتلة مع الحسين، بإيضاح أنّ الشهادة في هذا القتال كالقتال مع الأنبياء.
3 ـ التأكيد على زيارة كلّ الأنبياء لبقعة كربلاء، بالجزم التامّ على أنّ « ما مِن نبيّ إلاّ وزارها ».
وتذكر بعض المصادر التاريخيّة(11) أنّ عيسى ابن مريم عليهما السّلام مرّ بأرض كربلاء، وتوقّف فوق مطارح الطفّ، ولعن قاتلي الحسين ومُهْدِري دمه الطاهر فوق هذا الثرى(12).


• من الخصائص الحسينية المتألّقة
ونظرة واحدة إلى الملايين المؤمنة من البشر، التي تؤمّ قبر الحسين ومزارات آل البيت في كلّ مكان، لَكافيةٌ كي تدعم الرأي بتعاظم قوّة العقيدة وتمكّنها من النفوس، ورغبةِ المؤمنين في أن يظلَّ لقتل الحسين حرارةٌ متأجّجة لا تبرد في قلوبهم أبداً.. طالما هم مؤمنون، وصراطهم مستقيم.
فكيف سيكون ما كان، لولا الذي كان من استشهاد سيّد شباب أهل الجنّة، وإزهاق الباطل الذي عبّر عنه القرآنُ الكريم بقوله: إنَّ الباطِلَ كانَ زَهُوقاً ؟
وكيف كان وسيكون، مِن خَلْق هذا الشهيد لولا اختيار العناية الإلهيّة له، ولولا تعهّدُ جَدّه النبيّ الأكرم بتنشئته تنشئةً نبويّة ؟ فارتقت إنسانيّته إلى حيث نبوّة الجَدّ « أنا مِن حسين »، ( واصطفّت ) نبوّة الجدّ إلى حيث إنسانيّته « حسينٌ منّي ». ولا عجب في ذلك... فالحسين ـ في هذا ـ وَرِث خصائصَ جدّه من حيث الغَيرة على الدِّين، والاستعداد لبذل ما هو غالٍ في سبيله.
وقولة الرسول: « حسينٌ منّي وأنا مِن حسين »، و « اللهمّ أحِبَّه؛ فإنّي أُحبّه » فيهما شهادةٌ وتكليف:
شهادة: بأنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) قد عَهِد براية الإسلام الذي أُنزِل عليه إلى سِبطه الحسين الذي هو بضعةٌ منه.
وتكليف: للابن الذي أحبّه الرسول وطلب من ربّه أن يُحبّه، بالاستشهاد صَوناً للعقيدة، ودفاعاً عن روح الدين من العبث والاستهتار اللَّذينِ كادا يؤدّيانِ إلى اضمحلاله، فكانت هذه الشهادة وهذا التكليف هما العنوانَ الضخم والرمز الخالد لنهضة الابن في سبيل عقيدة الجدّ، حتّى استحقّ ـ عن جدارة ـ مغزى قولة: الإسلام.. بَدؤُه محمّديّ، وبقاؤه حسينيّ ».
فالحسين.. البضعة الرسوليّة، قام بمهمّةٍ لا تقلّ خطراً عن مهمّة جَدّه، فأبقى الإسلامَ كما بشّر به جدُّه الكريم، وأودع في صدور المسلمين وديعةً ثمينةً تنبّههم بوجوب الحفاظ عليها، كأندرِ وأغلى ما يملكون(13).
 

• صورة النبيّ صلّى الله عليه وآله
لقد جاء في أخبار الحسين عليه السّلام أنّه كان صورةً تشكّلت من صورة جدّه النبيّ صلّى الله عليه وآله، له شَبَهُه في الخُلُق والخِلقة.. تطلّع إليه الجدّ فرأى في مَخايِله سيماءَ مستقبل الأمّة وسؤددها، وحاملَ لوائها مِن بعده.
السبط النبويّ ـ تطلّع إلى جَدّه.. فرأى فيه معنى الدِّين ومعنى العقيدة، واستشفّ من الأذان الذي كبّره ( جَدُّه ) في سريرته ـ ولمّا يَزَل ( الحسين ) رضيعاً ـ رؤى المستقبل الآتي.
سيّد الشهداء ـ سما في شهادته فوق سمّو كلّ الشهادات التي أُوتيها أرباب الديانات وشهداؤها.. منذ زكريّا ويحيى حتّى المسيح، فكان ( الحسين ) إمامَ حقّ، وسيّدَ شهداءِ الحقّ.
سيّد شباب أهل الجنّة ـ أتمَّ حجّةَ الله في خَلْقه وفي دِينهِ الحنيف، وأبرزَ مظلوميّةَ آل محمّد، وأعاد دين النبيّ ـ الذي بشّر به إلى صراطه المستقيم ـ فأفنى ذاته وأهله في هذا السبيل، رَخّص نفسه الغالية فأغلى له اللهُ تعالى نفسَه على أنفُسِ ساكني جنّة خُلده، فصار سيّدَهم بما عَمِل وضحّى، وصار أحبَّ أهل الأرض إلى أهل السماء(14).

شمعة الإسلام ـ أضاءت لملايين المسلمين دربَ خلاصهم، وعرّفت لهم موطئ أقدامهم، وجنّبتْهمُ الزللَ في حُفَر الضلالة والسقوطَ في فِخاخ الخطيئة والتهاون، وأبانت لبصائرهم ـ بسطوعها المتجلّي أبداً ـ مسالكَ الحقّ، وطردت عنها معالمَ الوحشة لقلّة سالكيها، فعَبَرها المؤمنون آمنينَ مستنيرين بأنوار الشمعة التي أضاءت ـ باحتراقها فوق ثرى كربلاء ـ ولم تَزَل تُضيء.. حتّى يقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولاً.
دِرع الإسلام ـ ذبَّ عن الإسلام الأذى المتمثّلَ بوهن العقيدة وانحلال روحانيّة الدِّين، بعد أن غدت العقيدة ( في قلوب الناس ) ضَعفاً لا يتّصل بقوّة، بعد أن كانت قوّةً لا تتّصل بضَعف، فأغار ( الحسين عليه السّلام ) على مواطن الوهن والإثم، بالقول والفعل، وتلّقى ( عليه السّلام ) ـ بصبرٍ نادرٍ عجيبٍ ـ كلَّ ما شَهَره في وجهه: حَفَدةُ الشيطان، مستحلّو حُرَم الله وناكثو عهوده، ومخالفو سُنّة رسوله، العاملون في عباد الله بالإثم والعدوان.. فكان ( عليه السّلام ) ـ بتصدّيه للأذى اللاّحق بالعقيدة ـ دِرعَ الإسلام بحقّ. فلولاه، لَما كان الإسلام إلى ما صار إليه: عقيدةً ثابتة تترع في وجدان المسلمين وضمائرهم، بعد أن كاد يتحوّل إلى مذهبٍ باهتٍ يُركَن في ظاهر الرؤوس التي أدارتها نحو المذهبيّة الساذجة الحمقاء ممارساتُ القائمين على أمور المسلمين من حكّامٍ وأذنابِ سلطةٍ ومَدّاحي دواوين!
ضمير الأديان إلى أبد الدهور ـ.. باستشهاده ( عليه السّلام )، الذي لم يسجّل التاريخ مثيلاً له، تكرّست ثورته كضمير للأديان السماويّة، يستصرخ أبداً مناطقَ الشعور في الأنفس، وينبّه بتواترٍ لا يَهدأ مَثاوي العقيدة في الحَنايا، فكأنّه من الدين المعنى الدينيّ، ( رتّله ) في المهج على مقدار ما فيه من معناه.
حسيننا ضمير الأديان، والضمير محبّةٌ وتحابٌّ وغَيرة، في تلافيفه حنوُّ المستقبل ونَصَعانه، ومن آياته المُعبِّرة في صيغةٍ تعبيريّة عن حقيقتها: يا أيُّها الذينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عن دِينهِ فسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يُحبُّهم ويُحبّونَه، أذلّةٍ على المؤمنين، أعزّةٍ على الكافرين، يُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ لا يَخافونَ لَومَةَ لائم، ذلك فضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يشاء، واللهُ واسعٌ عليم (15)...
خير الأمم أمّةٌ هُدِيَت إلى الحقّ فهَدَتْ به، فالحقُّ يَجعل من الأمّة خيرَ الأمم، ومن المؤمنين خيرَ البشر وممّن خَلَقْنا أُمّةٌ يَهدون بالحقِّ وبهِ يَعْدِلون (16).
مقياس الأمم قبول الحقّ والعمل به، ومقياس المقاييس خير المؤمنين فئةٌ هدَتْ إلى الحقّ وعدلَتْ به، ونَهَتْ عن نقيضه.
فمَن مِن المؤمنين فعَلَ هذا ؟


مَن الذي أعلن على رؤوس الملأ قوله هذا:
« إنّما خَرَجتُ لطلبِ الإصلاح في أمّةِ جَدّي.. أُريد أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ. فمَن قَبِلَني بقبولِ الحقّ فاللهُ أولى بالحقّ، ومَن رَدَّ علَيّ هذا أصبِرُ حتّى يقضيَ اللهُ بيني وبين القوم بالحقّ، واللهُ خير الحاكمين » ؟
إنّه الحسين سيّد الشهداء في ميادين الحقّ، والذي كانت نهضته تمثيلاً عمليّاً لضمير الأديان على مرّ الدهور.
ولئن اعتُديَ على الحقّ الإلهيّ في غفلةٍ من الزمن، وفي حَلْكة الظلام، فلهذا الحقّ في ضمير الكون شاهد. وكان الحسين عليه السّلام ضميرَ الأديان في عمر الدهور، هو الشاهد الأوحد على محاولة إزهاق الحقّ في ضمير الكون.
ويأبى اللهُ إلاّ أن يُتمّ نوره.. وتأبى حكمته إلاّ أن تبلغ مَداها في فضاء العزّة والجلالة، لتغمرَ آفاقَ البشريّة بالقدسيّة والعدل والنُّبْل.
لهذا المقصد الإلهيّ.. كان الحسين قبسَ هداية، ومِشكاةَ طُهْر، ونموذج أخلاقٍ فاضلة، فكان حقّاً ضميرَ الأديان إلى يوم القيامة(17).
ـــــــــ
 10 ـ كامل الزيارات لابن قولويه 67.
11 ـ ومنها: كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق ص 295.
12 ـ ص 295 ، 296.
13 ـ ص 310 ـ 311.
14 ـ ص 346 ـ 347.
15 ـ سورة المائدة:54.
16 ـ الأعراف:181.
17 ـ ص 346 ـ 353.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة