مقالات

الاستدلال برواية الإمام العسكري(ع) على استحباب زيارة الأربعين (3)

 

الشيخ محمد عبيدان
مناقشة أخرى:
هذا وقد يناقش التمسك بالرواية محل البحث على ثبوت الاستحباب لزيارة الإمام الحسين(ع) من خلالها بإشكال آخر، حاصله:
إن البناء على دليلية الرواية المذكورة على الاستحباب-لو كان الدليل منحصراً فيها-يعدّ من تأخر البيان عن وقت الحاجة، ومن المعلوم-وفقاً لما ثبت في الأصول-أن تأخر البيان عن وقت الحاجة قبيح، فلا يصدر من الشارع المقدس.
ويمكن الجواب عن هذه المناقشة بأمرين:
 

الأول: الالتـزام بقاعدة التدريج في تشريع الأحكام، إذ قد ثبت أن هناك أحكاماً مشرعة من قبل الشارع المقدس، لكنها بعدُ لم تبلغ، لعدم مجيء المصلحة لإبلاغها حتى قيل أن هناك أحكاماً بعدُ لم تبلغ لا زالت محفوظة عند المولى صاحب الزمان(روحي له الفداء)، يـبلغها وقت ظهوره بأبي وأمي.
الثاني: الالتـزام بثبوت حق التشريع للمعصوم(ع)-وفقاً لقول بعض علمائنا-فإنه مع البناء على أن للأئمة(ع) حق التشريع، فلا مانع من أنه لا يكون هذا الحكم مشرعاً من ذي قبل، ومن بعدُ قام الإمام العسكري(ع) بتشريعه، فلا يكون في البين تأخير للبيان عن وقت الحاجة، فلاحظ.


المختار في الرواية:
هذا ولكن الصحيح أنه يمكن البناء على تمامية دلالة الرواية على كون المذكور فيها هو زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وهي الزيارة المسماة بزيارة الأربعين، وذلك تمسكاً بما تقدم من القرائن، من خلال دفع ما تقدم من الإشكال فيها، فنقول:
أما بالنسبة للتمسك بالعهد الذهني، فإنه يمكن تقريـبه بالبيان السابق، ويكون الدال عليه مجموعة من القرائن، توجب حصوله خارجاً:
الأولى: إن الإمام(ع) قد اعتمد على زيارة الأربعين المروية عن الإمام الصادق(ع) التي وردت عن صفوان في بيان كيفية زيارة الإمام الحسين(ع) يوم الأربعين، والرواية هي: عن صفوان الجمال قال: قال لي مولاي الصادق(ع) في زيارة الأربعين: تزور عند ارتفاع النهار، وتقول: السلام على ولي الله وحبيـبه….وذكر الزيارة-إلى أن قال-وتصلي ركعتين، وتدعو بما أحببت وتنصرف[11].
فقول صفوان قال لي مولاي الصادق(ع) في زيارة الأربعين ، لا يتصور فيه أحد أنه بصدد الحديث عن زيارة أربعين مؤمناً، وإنما هو بصدد زيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، وعليه يكون العهد الذهني الصادر من الإمام العسكري(ع)، ملحوظاً فيه هذا المعنى أيضاً، فلاحظ.


الثانية: إن زيارة الأربعين إشارة إلى زيارة جابر بن عبد الله الأنصاري(رض)، فإن من الثابت تاريخياً أنه(رض) قد ورد كربلاء لزيارة الإمام الحسين(ع) يوم العشرين من صفر، نعم الخلاف بين المؤرخين، أن وروده هل كان في سنة الشهادة، أم كان في السنة التي تليها، والحاصل، مما يتفق عليه بينهم أنه جاء لكربلاء بعد مضي أربعين يوماً من استشهاد الإمام الحسين(ع)، وهو يوم الأربعين، فكانت زيارة جابر بن عبد الله، زيارة الأربعين، وقد كانت هذه الزيارة معروفة ومتداولة بين المسلمين، فضلاً عن الشيعة، فمتى ذكرت لفظة الأربعين كان هناك عهد ذهني ينـتقل من خلاله السامع إلى زيارة جابر للإمام الحسين(ع)، وعليه يتحقق العهد خارجاً أيضاً، فيثبت المطلوب.
 

الثالثة: بناءً على التسليم بكون القافلة الحسينية قد رجعت من أرض الشام وقصدت أرض كربلاء كما هو أحد القولين الموجودين بين علمائنا، فالمذكور أن ورودهم أرض كربلاء كان يوم العشرين من شهر صفر، وهو يوم الأربعين من شهادة الإمام(ع)، فتكون زيارتهم للإمام(ع) يوم الأربعين، وتسمى عندها بزيارة الأربعين، ووفقاً لثبوت هذه القضية والتسليم بها، فسوف تكون حدثاً تاريخياً مشهوداً ومعروفاً بين الشيعة، بل بين المسلمين، ومن الطبيعي أن تكون أمراً مرتكزاً في الأذهان، ويكون العهد متحققاً فيها بين المتكلم والسامع، ولذا يكون الإمام(ع) معتمداً على مثل هذا المرتكز المعهود في أذهان الشيعة في ذلك الوقت، بل المسلمين.
بل يمكن البناء على هذه القرينة على أساس أنهم لم يأتوا لزيارة الإمام(ع) في نفس السنة، وإنما قدموا لزيارته في السنة الثانية من بعد الشهادة، يعني أنهم بعدما عادوا من الشام، وتوجهوا إلى المدينة المنورة، وبقوا فيها إلى أن جاءوا يزورون الحسين(ع)، وقد كانت زيارتهم له بعد مضي أربعين يوماً من شهادته، وقد كان ذلك يوم العشرين من شهر صفر.
وكذا أيضاً يمكننا الاعتماد على الانصراف، إذ أن مقتضى القرائن الثلاث التي ذكرناها يمكن البناء على أن في البين انصرافاً وفقاً لهذه القرائن، بحيث يقال: أن كثرة الاستعمال للفظة الأربعين متكررة في خصوص زيارة الإمام الحسين(ع)، حتى كادت أن تكون اللفظة موضوعة بإزاء هذا المعنى، فلا تستعمل في غيره، خصوصاً بملاحظة ما تقدم منا ذكره، أنه لم نجد استعمالاً لهذا اللفظ في مقدار ما فحصناه من النصوص في الحديث عن زيارة أربعين مؤمناً، وبصيغ متعددة، وبالجملة، فالقول بالانصراف ما لم يكن متعيناً، فلا أقل من أنه غير بعيد، فلاحظ.

بل إن الذي يخطر في البال، ويقوى في النفس قوياً جداً أن في البين تبادراً من اللفظ متى ما أطلق إلى خصوص زيارة الأربعين، وهذا يعني أنه لا يتصور وجود استعمال للفظ في غير هذا المعنى، ويشهد لذلك ما ذكرناه من عدم ورود مثل هذا التركيب والاستعمال في شيء من النصوص في شأن غير زيارة الإمام الحسين(ع)، فتدبر.
والحاصل، من جميع ما تقدم، أنه لا مجال لرفع اليد عن دلالة النص المذكور على الحث على زيارة الإمام الحسين(ع) في يوم الأربعين، وهو يوم العشرين من شهر صفر المظفر، لتمامية دلالة النص المذكور على ذلك، وبالتالي يكون الحكم باستحباب الزيارة لو تم الخبر المذكور سنداً في محله.

سؤال وجواب:
ثم إنه بعدما اتضح من خلال ما قدمنا تمامية دلالة الحديث على المدعى، وأن المقصود من زيارة الأربعين الواردة فيه، هي زيارة الإمام الحسين(ع)، قد يطرح السؤال التالي:
إذا كان الأمر كما ذكرتم، من أن المقصود من زيارة الأربعين، هي زيارة الإمام الحسين(ع)، فلماذا لم يصرح الإمام العسكري(ع)، بالزيارة، ويقول زيارة الإمام الحسين(ع) يوم الأربعين؟…
وجوابه، أن من المحتمل قوياً جداً، بل لعله المتعين، أن ذلك يعود لمبدأ التقية، إذ لا يخفى على القارئ العزيز أن ذلك الوقت كان قريب عهد الخليفة العباسي المتوكل، والتاريخ يحدثنا ماذا يعني عصر المتوكل العباسي بالنسبة لزيارة الإمام الحسين(ع)، وعليه، فأعتمد عليه السلام على العهد الذهني، وهو أسلوب يعتمده العقلاء في مقام المحاورة، وهو منهج متداول بينهم.

 

الإشكال السندي:
هذا ويـبقى عندنا الإشكال السندي، والظاهر أنه لا مجال لعلاجه، لما عرفت فيما تقدم من كون الخبر مرسلاً، نقله الشيخ(ره) في التهذيب من دون أن يذكر طريقه إليه، فلا يدخل دائرة الحجية.
إلا أنه يمكن البناء على حجيته، والاعتماد عليه، بل والإفتاء على طبقه، من خلال التسليم بأحد طريقين:
الأول: البناء على ما التـزم به مشايخنا الإخباريون(رض)من الالتـزام بقطعية الصدور في الكتب الأربعة، الكافي، والفقيه،والتهذيب، والاستبصار، فكل ما وقع فيها من نصوص يجزم بصدورها عن المعصومين(ع)، ولا نحتاج إلى ملاحظة شيء من أسنادها، وذلك استناداً لما صدر من شهادة من قبل المحمدين الثلاثة المؤلفين، لهذه الكتب الأربعة، ولما كان التهذيب واحداً منها، وقد ورد النص المذكور فيه، فيكون مشمولاً لذلك، وبالتالي يـبنى على صدوره، والاعتماد عليه.
الثاني: البناء على تمامية قاعدة التسامح في أدلة السنن، استناداً للروايات التي تضمنت أنه من بلغه ثواب على عمل، فعمله رجاء ذلك الثواب، كان له ثواب ذلك العمل، ولو كان رسول الله(ص) لم يقل ذلك الثواب.
 

فمن تلك النصوص:
ما رواه الصدوق(ره) في ثواب الأعمال، عن صفوان عن أبي عبد الله(ع) قال: من بلغه شيء من الثواب على خير فعمله، كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله(ص)لم يقله.
وعليه، فهذا النص قد اشتمل على الحديث عن صفات المؤمن، وهو يشير إلى الثواب الذي يناله كل من يعمل هذه الأعمال، حتى أنه أصبح متصفاً بصفة المؤمن، فيكون العمل محبوباً، وفيه من الثواب الكثير، فيثبت المطلوب.
نعم ما ينبغي الالتفات إليه أن هذين الطريقين، مبنائيـين، وليسا بنائيـين، بمعنى أنهما ليسا محل تسليم واتفاق بين الفقهاء، إذ أن البعض يـبني على قبولهما، والبعض الآخر لا يـبني عليهما، وبالتالي إنما يصلح هذا العلاج وفقاً لرأي بعض الفقهاء، وليس لجميعهم، كما لا يخفى.


دليل استحباب الزيارة يوم الأربعين:
هذا ولو لم يقبل ما سبق منا ذكره في إثبات استحباب زيارة الإمام الحسين(ع) يوم الأربعين بناءً على عدم تمامية دلالة الرواية على المدعى، لعدم نهوضها سنداً ودلالة، ولم تقبل رواية صفوان الجمال للدلالة على الاستحباب، فإنه يمكننا الاستناد في مقام إثبات الاستحباب في خصوص يوم الأربعين لدليل يتركب من أمرين، وهما:
الأول: ما ورد من النصوص الشريفة في استحباب زيارة الإمام الحسين(ع) مطلقاً، في كل وقت وكل زمان، من دون تخصيص لذلك بوقت محدد.
الثاني: ما ورد من الدليل الدال على إحياء مصابهم(ع).
ومقتضى الجمع بين الأمرين يحكم باستحباب الزيارة يوم الأربعين، لأنه يوم العشرين من صفر-وفقاً للقول بذلك-وردت العائلة الحسينية أرض كربلاء، وعمدت إلى إحياء المصاب وتجديده من جديد على الحسين(ع)، فزيارة كربلاء في ذلك اليوم من مصاديق إحياء أمرهم، لأن فيه إحياء لمصاب المولى الحسين(ع) من جهة، واستحباب زيارته المطلقة من جهة أخرى، فيتأكد استحباب الزيارة في خصوص هذا اليوم، لأنه يكون متضمناً لإحياء أمرهم(ع)، فيثبت المطلوب.
ــــــــــــــــــ
[11] وسائل الشيعة ب 56 من أبواب المزار وما يناسبه ح 2.

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة