مقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
السيد عباس نور الدين
عن الكاتب :
كاتب وباحث إسلامي.. مؤلف كتاب "معادلة التكامل الكبرى" الحائز على المرتبة الأولى عن قسم الأبحاث العلميّة في المؤتمر والمعرض الدولي الأول الذي أقيم في طهران: الفكر الراقي، وكتاب "الخامنئي القائد" الحائز على المرتبة الأولى عن أفضل كتاب في المؤتمر نفسه.

الأربعين وتغيير مسار التاريخ... كيف تكون زيارة الإمام قاعدة لإصلاح المجتمعات

السيد عباس نور الدين

هل يمكن لزيارة إمام معصوم أن تكون عاملًا أساسيًّا في عملية بناء الحضارة الإسلامية الجديدة؟ وهل يمكن لزيارة الأربعين بشكلها الحالي أن تصلح ما أفسدته سنوات القومية والحروب والتدخلات الأجنبية؟

تشهد زيارة الإمام الحسين عليه السلام ومنذ عدّة سنوات ظاهرة جديدة في مناسبة الأربعين تتمثل في العدد الكبير للزوار، الذين يتّخذون المشي مسافات طويلة طريقة للزيارة؛ لكن الأمر لا يتوقف عند هذا البعد، وإنّما يتخطاه إلى المشاركة في العديد من الأنشطة ومظاهر التعبير، التي تكاد تتحول إلى ما يشبه المؤتمر العالمي؛ حيث يأتي محبو هذا الإمام وعشاقه من أطراف الأرض وأكنافها، وهم يحملون بعض مظاهر الثقافة التي ترتبط بهذا الإمام ويعرضونها على كل الزوار المشاية.

فبالإضافة إلى مرافق الخدمات الغذائية والصحية العجيبة والفريدة، بتنا نشهد مرافق فكرية ومعنوية بصبغة الانتماء إلى هذا الإمام، الذي يمثّل لمحبّي أهل البيت (عليهم السلام) الكثير الكثير من المعاني الجليلة.

رغم ضخامة الحدث، فإنّ الإعلام العالمي لا يستطيع تغطيته بمضامينه نظرًا لخفاء الكثير من أبعاده الكامنة؛ وإن كان هناك ما يشبه التآمر أحيانًا.. فاجتماع الملايين في مكانٍ واحد وزمانٍ واحد من دون تخطيط مؤسساتي أو حكومي ليس بالأمر العادي بتاتًا؛ ويُفترض قراءة مثل هذا الحدث وتحليله بدءًا من منطلقاته الفريدة، مرورًا بدلالاته الجديدة، ووصولًا إلى نتائجه الكبيرة، التي يعلن المرشد الأعلى عنها بأنّها يمكن أن تكون عنصرًا محوريًّا في بناء الحضارة الإسلامية الجديدة!

يمكن مقاربة زيارة الأربعين بأسلوبها الجديد من زاويتين:

الأولى: فقهية.

والثانية: قيمية.

وبالرغم من قدرة الصناعة الفقهية على دراسة وتحليل هذه الظاهرة والحكم عليها، إلا إنّه لمن الغبن أن نكتفي بالنظر إليها من هذا البعد.

المشي للزيارة لا إشكال فيه، والإنفاق عليها، إن لم يكن من المستحبات، فلا أقل هو مباح على قاعدة "الناس مسلطون على أموالهم"، وبذل الوقت والجهد الزائد للزيارة أمر شخصي يحدد المكلف مسؤوليته بشأنه. ومع وجود بعض الأدلة والإشارات، يمكن استنباط استحباب المشاية. وأمّا المناقشة التفصيلية بالأدلة فتبدو قاصرة عن نفي هذا الاستحباب؛ خصوصًا مع ظهور رأي الولي الفقيه والمرجع الديني الأعلى مشجعًا ومحرضًا على مثل هذا العمل.

أما المقاربة الثانية، والتي تنطلق من دراسة الأبعاد القيمية في المشاية، فإنّها ترى في المشاعر المتولدة من هذا النوع من النشاط عنصرًا مهمًّا في تعزيز الإيمان والإنسانية، وهي تستشرف مستقبلًا حضاريًا باهرًا من وراء هذا المشروع الكبير.

يتحدث المشاركون في المشاية عن غبطتهم العارمة من حفاوة الضيافة والاهتمام بالزوار من قبل الناس العاديين، الذين هم فقراء ينفقون جُلّ ما لديهم، من أجل أن يؤمّنوا لهم كل سبل الراحة والطاقة واليسر. فشهود التضحية والإيثار والمحبة والضيافة والكرم والعشق في المضايف يولّد مشاعر رائعة تحفر عميقًا في القلوب.

كما أنّ السير لساعات طوال بين جم غفير من الناس لا يجمعهم سوى أمر واحد ـ هو أرقى ما في الإنسانية ـ أمر لا يمكن التقليل من شأنه أبدًا؛ أن يمشي المرء وسط حشود مليونية زاحفة نحو مقصدٍ واحد، ولا يدفعها لذلك سوى عشق إنسان كامل، شيء قلّما تخبره البشرية في واقعها الحالي ـ الذي تسيطر عليه كل أشكال اليأس والعبثية والانحلال.
ويتحدث المشاركون في المشاية عن تجربة معنوية فريدة حين وصولهم إلى مشهد الإمام وضريحه المقدّس، تتجاوز بدرجات ما يحصل للمسافر العادي الذي يقطع طريقه بالطائرة والسيارة. فبعد عناء المشي لعشرات الأميال (وبالنسبة للبعض مئات الأميال)، يدخل الزائر إلى عالمٍ، قطع لأجل الوصول إليه كل هذه المسافات، وليس في فكره وذهنه وخواطره وقلبه سواه. هناك حيث تكون نفسه قد استعدّت وشُحنت بكل المعاني الروحية التي سمع عنها أو جربها في حياته؛ معاني حضور إنسان عظيم كان له مثل هذا الدور المحوري في الدين والحياة.

إنّه لأمرٌ يصعب وصفه، وسيبقى تجربة تفوق كل أشكال التعبير، لكنّها تختزن أجلّ وأعلى المعنويات التي يحتاج إليها الإنسان للمضي في سفر هذه الحياة.

المقاربة الفقهية الشرعية تشكل بواعث مهمة، لكن المقاربة القيمية هي التي تسمح بأن نفكر بتطوير هذا النشاط الكبير بطقوسه الإنسانية المعنوية الرائعة. ومثلما تمثل المشاية تجربة معنوية فردية مميزة، فإنّها لا تقل أهمية أبدًا في تأثيراتها الاجتماعية الحضارية المستقبلية.

فلا يخفى ما كان لمقامات أهل البيت (عليهم السلام) في العراق وإيران من دورٍ تاريخي على صعيد تشكيل حواضر اجتماعية مميزة؛ حيث بُنيت مدن واسعة ومهمة حول أضرحتهم الشريفة، وهي تمثل اليوم إحدى أكبر التجمعات البشرية الإنسانية المسالمة. وأغلب الظن أنّ مثل هذا التشكل لم يكن وليد صدفة، كما أنّه لم يكن مبنيًّا على المصالح الاجتماعية والظروف الجغرافية. فمن النادر أن نشاهد في هذا العالم مدنًا تشكلت على أساس الاجتماع حول إنسانٍ عظيم. إنّ مدن كربلاء والنجف ومشهد على وجه الخصوص ذات صبغة خاصة، يكون فيها مرقد إنسان كامل يجسد كل معاني الإنسانية وفضائلها محورًا للتجمّع. وحتى المنتفعون اقتصاديًّا من هذا التجمع يدركون جيدًا أنّ رزقهم وغناهم مرهون لهذا الإنسان وحبّه والانتماء إليه.

لكن المدن، ورغم أهميتها، تفرق مثلما تجمع؛ فبسرعة قد تجد نفسك غريبًا بين كل الساكنين والمقيمين والعابرين في المدن المقدسة، وتتقطع الأواصر مثلما تجمعت بسرعة وعجالة. لكن أن تمشي مع كل هؤلاء الناس وتلتقي بهم في محطات، ليس فيها أي شكل من أشكال التبادل الاقتصادي والمنافع الدنيوية، وعلى مدى ساعات طوال، لهو أمر فريد جدير بالتأمل، نظرًا لما يحمله من تجربة إنسانية روحية اجتماعية فريدة.

وهكذا توصلنا المقاربة القيمية لزيارة الأربعين المشاية إلى أوسع الأبواب على عالم القيم الاجتماعية الرائعة، التي يُتوقع أن تتفتح أمام المشاركين ومن يخلفهم في بلادهم ومن ينتظر، ولا تبقى النتائج الحضارية الكبيرة التي بشّر بها القائد الحكيم مجرد أمنيات بعيدة الأمد.

فلئن كان الزائر مستعدًا لبذل كل هذا الجهد من أجل زيارة الإمام، فهذا يعني أنّه بات جاهزًا لإكمال معاني الزيارة التي تأسست هذه الشعيرة عليها.

فأن تزور يعني أن تنحرف عن مسارك اليومي أو العادي نحو الإمام وتجعله مقصدك في الحياة.
وأن تزور يعني أن تأتي الإمام وأنت مستعد للامتثال لكل ما يطلبه منك.
وأن تزور يعني أن تقصد أهم ما يمثله هذا الإمام بعد أن تتخلى عن كل أوهامك وأفكارك وأهوائك.

المقاربة القيمية تجعلنا قادرين على التفكر بعمق في معاني الزيارة وطرحها على نطاق واسع من أجل ترسيخ المعاني الحقيقية للزيارة وأهدافها الكبرى. فحين يبدأ التفكير بالجانب الحضاري للمشاية، وحين يكتشف الزوار مثل هذا البعد لانتمائهم إلى الإمام، تتحرك عقولهم نحو الإجابة عن سؤالٍ بديهي يرتبط بما يمكن أن يقدموه للبشرية انطلاقًا من موقع الإمام نفسه. ومن الطبيعي أنّ هذه الحركة الجماهيرية الواسعة هي شيء أبعد من مجرد التعبير عن الحزن تجاه الفاجعة التي حصلت قبل حوالي أربعة عشر قرنًا من الزمان، بل هي إحياء لكل ما كان الإمام الشهيد قد خرج لأجل إحيائه. وقد تكون المشاية أكبر مظاهرة في العالم كلّه، تحمل معها كل شعارات الإصلاح التي تحتاج إليها البشرية للنجاة.  

 

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد

مواقيت الصلاة